إبراهيم الملا
في مناخ مشبع بثيمات متدفقة بصرياً ومتخلّصة قدر الإمكان من الإيحاء والتورية والترميز، ووسط التقاطات مرتهنة لقضايا إنسانية متعددة الأصناف والأطياف، استطاع الفيلم الوثائقي منذ تبلور هويته الفنية في عشرينيات القرن الماضي، أن يفلت من إطار «السردية المُخادعة» للفيلم الروائي، كي يحتضن ويتقاطع مع «الواقعية الأصيلة»، لأنها واقعية خشنة ومثيرة للجدل والحساسيات، وخصوصاً إذا كانت هذه القضايا محوطة بألغاز وحيل وضغوط خفية تصنّفها في خانة «المسكوت عنه» أو «المغيّب قسراً»، وهنا يصبح الفيلم الوثائقي هو ضمير السينما بامتياز، ذلك أنه يتخطى حواجز عالية وصعبة، كي يكشف عن الحقائق المبهمة ويخترق حجاب الأسرار، وبلا شك فإن تحقيق ذلك دونه الكثير من التضحيات الملموسة والمعنوية التي يقدمها مخرج الفيلم وطاقم العمل المشارك معه.
وعلى عكس الفيلم الروائي، فإن موضوع الفيلم الوثائقي لا يتأتّى من مزاج المؤلف، ولا من تصورات المخرج، بل ثمة أمانة تعبيرية يتعيّن على العمل التوثيقي أن يتحمّل عبئها، لأنها نابعة من الواقع نفسه، دون تدخّل أو فرض لشروط معينة يضعها منتجو الأفلام الروائية غالباً، إذ استطاع الفيلم الوثائقي التمرّد على شرط «التخييل» باعتباره المرتكز الأساس في الفيلم الروائي بنوعيه القصير والطويل، وباعتباره أيضاً أداة يجيد كتاب السيناريو تطريزها بصرياً لتكون موائمة للقصص الذهنية ببعديها الافتراضي والانتقائي. وهذا التمرّد الذي مارسه الفيلم الوثائقي على المقاييس السينمائية الثابتة، جعله نصيراً للحسّ النقدي في البيئات والمجتمعات التي تفاعل معها وسلّط ضوءاً مبهراً على الخلل الكامن فيها والمعيق لتطورها. وفي سياق موازٍ لم يتخلّ الفيلم الوثائقي كذلك عن مركزية «الجوهر الإنساني» وسط الصراع المحتدم بين ثنائيات الضرورة والحرية، والتهميش والاستقلالية، والفكر الجمعي والفردانية النقيّة، وغيرها من الثنائيات المتنافرة في نسيج المجتمعات البشرية منذ الأزل وإلى اليوم.
بدايات الظهور
بدأ الانفجار البصري والمعرفي للسينما -إذا صح الوصف- على يد الأخوين «لوميير» في فرنسا، من خلال إطلاقهما وبكاميرا بدائية أولى شرارات الفن السابع التي أشعلت الهوس بالسينما حول العالم. وقد وثّق الأخوان «لوميير» حركة الحياة اليومية في شوارع فرنسا، وأسس دخول القطار على الشاشة للحظة الذهول القصوى التي لم يختبرها الجمهور مسبقاً، لحظة تفوّقت بمراحل على الفرجة المسرحية على رغم تراكمها الزمني وتاريخها العريق! فمنذ انفجار تلك اللحظة المهيبة والآسرة في آن واحد، امتلكت السينما لغتها الخاصة والمستقلة، وصارت الصورة المخترقة للزمان والمكان، هي الصورة المثالية التي طالما ارتأى الفلاسفة والشعراء والحالمون أنها عصيّة على القبض والتجسيد.
وفي دراسة لها حول بدايات ظهور الفيلم الوثائقي ومناهجه وتياراته التي تشكلت لاحقاً، تشير الباحثة «باتريشيا أوفدرهايد» إلى أن ثلاثة أشخاص أسسوا في عشرينيات القرن الماضي لظهور الفيلم الوثائقي وانتشاره تالياً في الأوساط العالمية، وهم: روبيرت فلاهرتي، وجون غريرسون، وودزيغا فيرتوف، انطلاقاً من سؤال محوري كان عليهم مجابهته وهو: «متى تُعارض المهارة الفنية الواقع ومتى تسهّل تمثيله؟»، حيث اشتبكوا مع هذا السؤال بأساليب مختلفة ليمهدوا الطريق أمام جدالات لاحقة. وقد عمل كل من فلاهرتي وغريرسون مع اختلاف تطلعاتهما على ترسيخ الواقعية في السينما الوثائقية، وهذا التقليد التعبيري هو ما يخلق وهْم الحقيقة عند المشاهد. وهكذا لم تكن الواقعية محاولة التقاط صورة طبق الأصل للواقع، بل طريقة تُوظّف الفن لمحاكاة هذا الواقع على نحو فعّال تماماً بحيث يجذب المشاهد من دون التفكير في آليات نقله إلى الشاشة.
لقد مهّد رائد السينما الوثائقية «روبرت فلاهرتي» لهذه النوعية المبتكرة من الأعمال البصرية من خلال تنفيذه لفيلم «نانوك الشمال» 1922، الذي يتناول صراع الإنسان في القطب الشمالي ضد الطبيعة، متتبعاً قصة أسرة من الأسكيمو تكافح للبقاء في مناخ معيشي صعب ومرهق. ويعد فلاهرتي أيضاً الأب الروحي لهذا الاتجاه، حيث تمسك بتصوير كل أفلامه في مواقعها الأصلية حول النشاط اليومي للمجتمعات الإنسانية في بيئات مثلت كشفاً تاريخياً وجغرافياً جديداً للمشاهدين حينها، هذا بالإضافة إلى أنه لم يكن يعمل وفق قالب معد مسبقاً بحيث اعتمد على قوة الملاحظة وعلى الرصد الحيّ والمباشر.
المحاور الشرس
أما الشخص الثالث المؤسس للسينما الوثائقية وهو المخرج الروسي الثوري دزيغا فيرتوف، فقد كان محاوراً شرساً بالنيابة عمّا كان يدعى في روسيا بالأفلام الواقعية غير التمثيلية، وكان مناصراً لقيمة الحقيقة المميزة في: «تصوير الحياة من دون استعداد مسبق»، أي تلك اللحظة الارتجالية والعفوية أثناء التعامل مع الواقع ومع القضايا المستجدّة فيه. ومع هذا التوجّه الفني ظل «فيرتوف» مصدر إلهام مستمر للفنانين الطليعيين وصنّاع الأفلام الوثائقية في كل مكان. حتى أنه كان ملهماً لرواد السينما الواقعية في إيطاليا عندما استعانوا بشخوص غير محترفين وبمواقع تصوير حقيقية تنتمي للمكان في أفلامهم الروائية. وكان حلم «فيرتوف» بالنسبة إلى الصناعات السينمائية هو التشديد على علو كعب السينما «غير التمثيلية» على الأفلام التمثيلية، واستبدال الاستوديو بحلبة الحياة نفسها. فالسينما عنده هي الوسيلة المثالية لالتقاط حقائق الحياة وعدم الكذب على الناس أو محاولة تشويشهم. لقد حطّ «فيرتوف» من شأن ما سمّاه: «الترفيه الروائي»، وكان فناناً طليعياً، وتلك الهوية هي التي لازمته طوال مسيرته الإبداعية.
وتضيف الباحثة أوفرهايد أن مصطلح: «وثائقي» برز بشكل غير مخطط له مع أولى المحاولات العملية، عندما بدأ الروّاد في أواخر القرن التاسع عشر تسجيل الصور المتحركة لأحداث واقعية، حيث دعا البعض ما يقومون به باسم «وثائقي» Documentary ومنهم من دعاه بالفيلم «التعليمي» أو «الواقعي» في حين أشار آخرون إلى موضوعه الرئيس، على سبيل المثال: «أفلام السفر» و«أفلام الطبيعة» أو «الأفلام الاجتماعية»، حسب موضوعاتها أو فضاءات التصوير فيها.
تحديات كبيرة
لقد واجه الفيلم الوثائقي منذ تشكل هويته وإلى اليوم تحديات كبيرة تمسّ مفهومه والغرض من إنتاجه، ومدى ارتباطه بسوق السينما وبرغبات الجمهور والذوق السائد، فالرأي الذي يقول إن الفيلم الوثائقي يقوم بكل شيء ممكن لتجسيد الحياة الواقعية دون معالجة أو إقحام لعناصر دخيلة أو إضافية، هو رأي يتعارض مع آليات صناعة الفيلم بمختلف أنواعه، ومنه الفيلم الوثائقي نفسه الذي يخضع لمعالجات فنية مثل المونتاج والمكساج وإضافة المؤثرات البصرية والسمعية، سواء لتدعيم أجواء الحدث الحقيقي في الفيلم، أو لخلق تأثير نفسي يساهم في ازدياد شعور التعاطف مع شخوص الفيلم الوثائقي أو الانجذاب إلى القضايا المطروحة فيه والتفاعل معها.
وتشير أوفدرهايد في دراستها إلى أن المفهوم السائد عن الفيلم الوثائقي هو تقديمه لقصة واقعية ويدّعي الصدق، أمّا عرض هذا الفيلم بأمانة وحسن نيّة فهو نقاش لا نهاية له في ظل وجود عدد كبير من الأجوبة والاحتمالات، حيث يجري تعريف الفيلم الوثائقي وإعادة تعريفه على مدار الزمن، أكان ذلك من جانب صنّاع الأفلام أم المشاهدين، حيث تُبنى توقعات الجمهور من خلال معرفتهم بالعالم واهتمامهم به ومقارنته مع الصورة التي يظهرها لهم المخرجون، ويتوقع هذا الجمهور ألاّ يتم خداعه أو الكذب عليه، وهو جمهور يتطلّع لرؤية حقائق العالم الخارجي، حتى لو كانت هذه الحقائق صادمة، وبالتالي لن يكون الفيلم الوثائقي نقيّاً وأصيلاً، إذا لم يكن مجرّداً من المصلحة والانتفاع والترويج الدعائي، وإذا لم يتحرّ الصدق والدقة والحيادية في كل تفاصيله.
أعظم 100 فيلم وثائقي
تضع الباحثة أوفدرهايد في نهاية دراستها مئة فيلم عظيم أمام القارئ كي تكون هذه الأفلام مرجعاً أساسياً للتعرّف على الشروط القياسية للفيلم الوثائقي، وتتبع حركته ومساره وتطوّره منذ بدايات القرن الماضي وإلى اليوم، ذلك أنها أفلام نوقشت على نطاق واسع، وكانت محور جدالات عدة، وقدمت في حالات أخرى موارد تعليمية وثقافية قيّمة، كما أن بعضها وثّق لتحولات كبرى في العالم، سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، وكان لعدد كبير منها دور في التغيير في مجتمعات كثيرة حول العالم.
ومن هذه الأفلام: «نانوك الشمال – إنتاج سنة 1922» و«برلين سيمفونية عظيمة – 1927» و«الرجل ذو الكاميرا السينمائية – 1929» و«بريد ليلي – 1936» و«الأسياد المجانين – 1955» و«بائع متجوّل» و«الأسى والشفقة» و«لا تنظر إلى الوراء» و«أولمبياد طوكيو» وهي أفلام أُنتجت في حقبة الستينيات، أما في السبعينيات وما بعدها فهناك أفلام وثائقية مهمة لا يمكن لعشاق الأفلام الوثائقية أن يغفلوا عنها، مثل: «بيع البنتاغون» و«العالم في حرب» و«الفالس الأخير» و«حديقة المباهج الأرضية» و«من القطب إلى خط الاستواء» و«الخيط الأزرق الرفيع» و«باريس تحترق» و«أفريقيا سوف أجعلك تفلسين» و«تشيلي: ذكرى عنيدة» و«المقاتل» و«اليوم الذي لن أنساه ما حييت»، وصولاً إلى أفلام وثائقية معاصرة خلقت جدلاً كبيراً عند عرضها مثل فيلم «حقيقة مزعجة» للمخرج ديفيس غوغنهايم حول التأثير السلبي للصناعات الحديثة على البيئة والمناخ. وكذلك أفلام المخرج الأميركي مايكل مور، وفي مقدمتها فيلم: «فهرنهايت 9/11» الذي تحوّل إلى ظاهرة سينمائية عندما فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2004 وهو ثاني عمل وثائقي يفوز بهذه الجائزة منذ فوز فيلم جاك كوستو «العالم الصامت» بالجائزة عام 1956، ثم حطم فيلم «مور» شباك التذاكر كأول فيلم وثائقي يحقق هذا القدر الهائل من الإقبال الجماهيري في صالات العروض المخصصة أساساً للأفلام الروائية والترفيهية.