ضباب سياسي سيلف أيامه الـ11 وسيعرض للحرب الأوكرانية
تنطلق اليوم (الأربعاء) الدورة الـ79 من مهرجان «فينيسيا»؛ أقدم مهرجانات السينما على الإطلاق وأحد أهمها شرقاً وغرباً… يتساوى مع «كان» أهمية، ويتجاوز «برلين» في زاوية تفضيل صانعي السينما له…
الصداع الدائم، وغير المعلن، لمهرجان «كان» الذي يرتفع ببضع درجات عن سواه من حيث صيته الكلاسيكي وشمولية عروضه وتظاهراته، ولكن، حسب ملاحظات السنوات الأخيرة، فإن «فينيسيا» هو الذي بات وجهة طالبي الفن السينمائي المتحرر من قوالب بعض المهرجانات الأخرى حوله.
في مرحلة بالغة الأهمية من التاريخ نعيشها حالياً، فإن الأحداث السينمائية، كهذا المهرجان، ترتبط دوماً بما يتفاعل حولها اليوم صناعياً واقتصادياً واجتماعياً وبالطبع سياسياً. ودورة العام الحالي ستحفل بكل هذه الجوانب في الوقت الذي تفتح فيه كل يوم عدداً من الصناديق المغلقة؛ هدايا ينجلي كل منها عن فيلم جديد.
من الفيلم الإيطالي «لامنيستا»
– بين جبهتين
لن تكون، رغم ذلك، دورة سهلة أو عادية حتى بمقياس ما حققه المهرجان سابقاً.
بدايةً؛ هناك الضباب السياسي الذي سيلف أيامه الـ11؛ بعض هذا الضباب آتٍ من الشرق، والبعض الآخر من الغرب. وجماعة المهرجان، الذي يقوده بعناد ونجاح ألبرتو باربيرا، تجد نفسها ملزمة بأن تعكس الأجواء المضطربة لهذا العالم الذي نعيش فيه. لا مهرب من ذلك.
الحرب الأوكرانية، التي لا تبعد كثيراً من الحدود الإيطالية، تفرض اتخاذ موقف من الغزو الروسي. وقد سبق لباربيرا أن أعلن بفم ملآن موقف المهرجان المناوئ للروس في تلك الحرب والظروف الصعبة التي خلقتها على جميع الأصعدة.
هذا في الغرب. في الشرق، هناك المسألة الإيرانية التي تجلت العام الحالي، بسجن بعض أقطاب المعارضة من المخرجين الإيرانيين أمثال محمد رسولاف وجعفر باناهي. هذا استدعى كذلك احتجاج المهرجان على قمع حرية التعبير، وفي 19 سبتمبر (أيلول) المقبل، مظاهرة تحظى بدعم المهرجان، تطالب بإطلاق سراح السينمائيين المسجونين أو الممنوعين من العمل؛ وفي مقدمتهم جعفر باناهي نفسه.
هذا الوضع مترجم؛ عروضاً سينمائية. على الجانب الأوكراني 3 أفلام هي: «الحرية على نار: قتال أوكرانيا للحرية (Freedom on Fire: Ukranine›s Fight for Freedom)» لإيفيني أفينفسكي و«محاكمة كييف (Kiev Trial)» لسيرغي لوزنتزا، و«لوكسمبورغ… لوكسمبورغ» لأنطونيو لوكيتش.
«الحرية على نار» هو فيلم لأفينفسكي، وهو ثالث فيلم تسجيل له عن الموضوع الأوكراني الذي يعود، في تاريخه القريب، إلى سنة 2014 إبان الحرب الأهلية التي شهدت صراعاً بين الأوكرانيين والانفصاليين. الفيلم الأول كان «شتاء على نار»، والثاني «الصلاة من أجل أوكرانيا». الفيلم الجديد يتحدث عن أوكرانيا اليوم من خلال مقابلات متوالية مع أطباء وجنود وصحافيين استيقظوا على الغزو الكبير.
بدوره؛ يبحث «محاكمة كييف» للمخرج التسجيلي سيرغي لوزنتزا، وهو يختلف عن الفيلمين الأوكرانيين الآخرين من حيث إنه يتعامل مع محاكمات النازيين التي تمت في العاصمة الروسية؛ موسكو، بعد الحرب العالمية الثانية.
على الصعيد الإيراني، 3 أفلام أيضاً؛ واحد منها في المسابقة هو فيلم جعفر باناهي «No Bears»، الذي يسرد حكاية حبيبين يواجهان مصاعب (يصفها ملخص الفيلم بالمخفية) تحول دون تحقيق رغبتهما في حياة زوجية مستقرة.
كلمة «Bear» تعني الدب وتعني الحِمل (كما في الحمل الثقيل) وبالتالي «أعباء» هي الكلمة التي لا بد من أن الفيلم يقصدها. الفيلمان الإيرانيان الآخران معروضان، كما حال الأفلام الأوكرانية، خارج المسابقة الرئيسية؛ وهما «وراء الجدار (Beyond the Wall)» لوحيد جليلوند، و«الحرب العالمية الثالثة (World War III)» لحومان سائدي.
ففي 3 سبتمبر المقبل، ندوة كبيرة تحت عنوان: «صانعو الأفلام تحت الهجوم» (Filmmakers Under Attack)»، مخصصة لدراسة وضع المخرجين الذين مُنعوا من العمل بسبب آرائهم السياسية؛ ومنهم، أخيراً، مخرجان من تركيا هما: صدغام ماطر ونادر أوبرلي.
ملصق الدورة الـ79
– مشروع متوارث
فيلم الافتتاح («ضجة بيضاء» White Noise) اختير ليكون عملاً يبتعد عن بعض آخر افتتاحات المهرجان الإيطالي؛ تلك التي انتمت إلى أفلام الخيال العلمي والكوارث، لكنه في الواقع متصل بها من خلال اقتباس رواية الكاتب الأميركي دون دليللو (نُشرت سنة 1985) عن رجل وزوجته يقرران اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة ضد أي سبب للموت. ما يبدأ بالحذر ينتهي بهاجس مخيف يحول حياتهما إلى سلسلة من المواقف الداكنة.
الفيلم من إخراج الأميركي نوا بومباخ، وبطولة غريتا غارويغ وآدم درايفر. لكن المشروع ليس جديداً. وفي حين أن هذا الفيلم هو أول اقتباس لبومباخ عن رواية؛ فهو الفيلم الرابع لدليللو الذي يُحول إلى فيلم؛ إذ سبق لمايكل هوفمن تحقيق «Game 6» سنة 2005 عن إحدى رواياته، وحول الكندي ديفيد كروننبرغ روايته «كوزموبوليس (Cosmopolis)» سنة 2012، ومن ثم أخرج الفرنسي بنوا جاكو «Never Ever»؛ (ما يمكن تسميته «أبداً مطلقاً»)، سنة 2016.
لكن المشروع الذي انبرى إليه بومباخ لم ينمُ في حديقة منزله… في عام 2004 حاول المخرج باري صوننفلد تحويل الرواية إلى فيلم، لكنه تخلى عن المشروع، وبعد 12 سنة تصدى مايكل ألميريدا للمشروع، لكنه تخلى عنه في مطلع 2020.
لا بد من العودة للفيلم بعد مشاهدته، لكن اللافت، وكما تناهى في «هوليوود» قبل أسابيع، أن المهرجان الإيطالي كان فكر في استقبال فيلم أميركي آخر للافتتاح هو «Nope» لجوردان بيل. بعد مشاهدة هذا الفيلم الممتاز يتساءل المرء عما إذا كان اختيار فيلم «ضجة بيضاء» في محله.
من ناحية أخرى، يسجل «ضجة بيضاء» أول افتتاح مهرجاناتي كبير لشركة «نتفليكس» المنتجة. وعلاقة «فينيسيا» بـ«نتفليكس» مميزة من حيث إن الشركة حاولت سابقاً دخول مرتع مهرجان «كان»، لكن قوانين المهرجان الفرنسي مانعت تبعاً لمعارضة «جمعية أصحاب الصالات الفرنسية» التي لها تأثير كبير على اختيار «كان» من الأفلام. حين اتجهت «نتفليكس» إلى «فينيسيا» لم تجد ممانعة مطلقاً، وبذلك منح المهرجان الإيطالي منصات الشركات المنزلية (مثل «نتفليكس» و«أمازون» و«هولو»… وسواها) «كارت بلانش» لدخول مسابقاته وعروضه الرسمية ما دامت الأفلام المقدمة إلى «كان» تلبي شروطه الفنية.
العام الحالي، هناك 4 أفلام في عروض الأفلام المتسابقة على جائزة «الأسد الذهبي» من إنتاج «نتفليكس»، وهي؛ لجانب «ضجة بيضاء»، «باردو» لأليخاندرو غونزاليز إناريتو («نتفليكس» أيضاً)، و«بلوند» لآندرو دومينيك، و«أثينا» للفرنسي رومان غافراس.
يمكن القول براحة المتابع وتوقعاته، إن الأفلام الأربعة المذكورة ستدور في فلك موسم الجوائز المقبل، كما فعلت أفلام سابقة عرضت في مهرجان «فينيسيا». أربعة من أصل الأفلام العشرة التي دخلت سباق الأوسكار في السنوات الأخيرة (2011 – 2021) كانت من عروض مهرجان «فينيسيا» وآخرها الفيلم الإيطالي «يد الله» لباولو سورنتينو، و«سُلطة الكلب» وذلك في العام الماضي. الأول دخل ترشيحات الأفلام الأجنبية، والثاني دخل ترشيحات أكثر من مسابقة وخرج بجائزة أفضل إخراج (لجين كامبيون).
عائلة تبحث عن ملاذ في «ضجة بيضاء»
– حضور أوروبي
الأفلام الأميركية الأخرى التي سنراها على شاشة «فينيسيا» هي: «Tár» لتود فيلد (الأول له منذ أن أخرج قبل 16 سنة فيلمه الجيد «Little Children»)، و«الحوت» لدارن أرونوفسكي، (بطولة برندان فرايزر كما لم نره من قبل)، كما «عظام وكل شيء (Bones & All)» التعاون الثاني بين الإيطالي لوكا غوادانينو والممثل تيموثي شالامت.
الفيلم الأميركي الآخر الذي يُثير التكهنات كونه من نوع «الوسترن» (الذي عادة لا يدخل مسابقات المهرجانات) هو «ميت لأجل دولار (Dead for a Dollar)» لوولتر هَل، الذي كان صرح قبل سنوات بأن كل أفلامه (سواء أكانت «وسترن» فعلياً أم لم تكن) هي «أفلام وسترن».
الحضور قوي كذلك للأفلام غير الأميركية مع مجموعة من الأعمال اليابانية والأرجنتينية والفرنسية والإيطالية وسواها في المسابقة الرئيسية أو خارجها.
لتوفير صورة متكاملة؛ فإن المهرجان يحتوي العام الحالي 6 أقسام هي: المسابقة الرئيسية (23 فيلماً)، وقسمان للأفلام خارج المسابقة؛ واحد للسينما الروائية (10 أفلام)، والآخر للأفلام غير الروائية (9)، ومن ثم مسابقة «تظاهرة آفاق» (17)، وتظاهرة مستحدثة بعنوان «آفاق إكسترا» (9)، و«كلاسيكيات فينيسيا» (14).
الاشتراك الأوروبي قوي في كل هذه البرامج؛ يتقدمها، في المسابقة، الفيلم الإيطالي «لامنيستا» لإيمانويل سرياليس، و«شيارا» (إيطالي – بلجيكي) لسوزانا نكياريللي، و«أثينا» (فرنسا) لرومين غافراس، و«الابنة الخالدة» (بريطانيا) لجوانا هوغ، و«مونيكا» (إيطالي – أميركي) لآندريا بالياكورو.
سيخطف الاهتمام الأكبر عدد محدود من الأفلام كالعادة، من بينها «الابن» (بريطانيا)؛ الفيلم الجديد لفلوريان زَلر الذي سبق له أن قدم «الأب» قبل 3 أعوام.
وإذ تفترش الأفلام مختلف الأقسام والتظاهرات، ينشد الحاضرون في نهاية المطاف أن يؤمن المهرجان بكامله لا الأفلام الجيدة فقط؛ بل كذلك، المكانة التي اشتهر بها المهرجان الإيطالي في السنوات العشر الأخيرة التي شهدت اطراد أهميته وتحوله إلى ملجأ للباحث عن أفلام ومواهب لا يمكن التعرف عليها إلا في إطار «فينيسيا» أكثر من سواه.