التخطي إلى المحتوى

أعشق أغلب أغنيات المطرب وديع الصافي (1921–2003)، إلا إن واحدة من أغنياته ظلّت لها مكانة خاصة في قلبي: “بالساحة تلاقينا” من كلمات عبد الجليل وهبي وألحان عفيف رضوان. لفترة طويلة كنت أردد كلماتها بيني وبين نفسي،  وفي كل مرة أجد في مفرداتها تناغماً إلى جانب خفة ظل مستترة، يؤديها الصافي باقتدار وتمكن كبيرين ضمن لحن شجي، يغلب عليه الطابع الفلكلوري.

ظلّ الحال هكذا إلى أن صدر مؤخراً كتاب بحثي رصين أنجزه الناقد الموسيقي الأب الدكتور بديع الحاج عميد كلية الموسيقى بجامعة الروح القدس–الكسليك، بعنوان “عبد الجليل وهبي: في الشعر، في الإنتاج الفني الإذاعي، في جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان” عن دار نلسن، 2002. اطّلعت على الكتاب بشغف، خصوصاً أنني كنت قد قرأت كتابه السابق عن الموسيقار حليم الرومي، فوجدت به مادة بحثية ثرية مدعومة بالوثائق والبيانات والأرشيف الزاخر ومقدمة رشيقة من الشاعر اللبناني هنري زغيب.

عبد الجليل وهبي صورة شخصية

يقول الحاج في مقدمة كتابه: “عبد الجليل وهبي علم كبير في دنيا الشعر الغنائي والزجل المنبري. كم صدح أصوات بأشعاره في رحاب الإذاعة اللبنانية في عصرها الذهبي، كما في إذاعة الشرق الأدنى، وإذاعات عربية عديدة؟ وكم تعلّم جيل من ملاحم تحكي قصص حكماء وعظماء وأناس طبعوا التاريخ بمآثر خلدت بقصائد عبد الجليل وهبي شعراً، ومن بعد بأصوات كبار المطربين غناءً. عبد الجليل شاعر غزيز في إنتاجه، أبدع الشعر في العامية اللبنانية كما أجاد في الشعر الفصيح. تميّزت شخصيته بالذكاء وسرعة البديهة، كما بطُرف ملفت يعبر عن محاور محبب تجاه الآخر. تميز بغزارة العطاء مع المحافظة على مستوى رفيع في شكل القصيدة كما في مضمونها”.

عبد الجليل وهبي واحد من أعمدة الأغنية اللبنانية، كتب قصائد غناها كلٌّ من وديع الصافي، صباح، نور الهدى، نجاح سلام، ووردة، وفايزة أحمد، وفريد الأطرش… يمكن القول إن كلماته جزء لا ينسى من الثقافة الموسيقيّة العربيّة

قسّم الحاج كتابه إلى ثلاثة أبواب أساسية وملحق، استعرض خلالها سيرته الشخصية والفنية وأبرز المحطات والإسهامات في حياته وجداول إنتاجه الفني المتنوع وملحق خاص بجمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى بلبنان.

غلاف الكتاب

نتعرف من خلال الكتاب إلى أن عبد الجليل إسماعيل إبراهيم وهبي من مواليد 11/11/1921 في حلب بسوريا، في عائلة تعود أصولها إلى بلدة حاروف في قضاء النبطية في الجنوب اللبناني. عاد مع أهله إلى لبنان في طفولته، وانضم إلى تلامذة مدرسة حوض الولاية في بيروت. حصل على شهادة البكالوريا وارتقى المنابر في السادسة عشرة من عمره، وراح ينظم الشعر ويتدرج فيه إلى أن قابل الشاعرين أسعد سابا وأسعد السبيعلي، فأسس معهما “عصبة الشعر”. راح ينظم الزجل وتبارى مع كبار الزجالين، قبل أن يختار مجال الأغنية ليتخصص به كما أن له ديواناً شعرياً بعنوان “نفحات من الأدب الشعبي”. خلال حياته، تزوج أربع مرات من بينهم المطربة بهية وهبي (المعروفة باسم شهرتها وداد)، وأنجب البنين والبنات من زوجاته.

في 13 يونيو/حزيران عام 1949 انضم عبد الجليل وهبي إلى جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في العالم (SACEM) كشاعر ومؤلف دائم، قبل أن يلتحق بالإذاعة اللبنانية في عام 1953 والتي شغل بها منصب رئيس قسم اختيار النصوص الغنائية منذ 1955 حتى 1975. نجح خلال هذه المرحلة في كتابة كوكبة من الأغنيات المتميزة باللهجة اللبنانية المحكية، بعد أن طلب منه كلٌّ من ميشال خياط وحليم الرومي أن يتخلى عن القصائد الزجلية المنبرية المطولة، ويتجه صوّب القصائد القصيرة ذات القوافي المتنوعة، والتي يسهل حفظها لتكون بمثابة مادة أساسية للأغنيات التي يسجلها المطربون والمطربات في الإذاعة اللبنانية باللهجة المحكية الدارجة.

مؤلف الكتاب الأب بديع الحاج

فكان من بين أوائل الشعراء الذين أسهموا في تأسيس مجد الأغنية اللبنانية، ولم تقتصر شهرته على حدود الإذاعة فقط، بل كان ملهماً لكبار الشعراء في العالم العربي مثل أحمد رامي.

يروي الحاج في كتابة أن الأخير كان حاضراً لإحدى الحفلات في بيروت، وعندما سمع المطربة نجاح سلام تنشد مقطعاً يقول: “واليوم اللي ما بشوفك فيه/من أيامي مش محسوب”، طلب منها أن تعيده مراراً ومن شدة إعجابه قال لها: “الكلام ده حا حطه في أغنية”. وبالفعل جاءت أغنية “عودت عيني على رؤياك”، من كلمات رامي، متضمنة المقطع الشهير: “وإن مرّ يوم من غير رؤياك/ما يتحسبش من عُمري”.

من بين المواقف المميزة أيضاً التي يرويها الكتاب قصةُ أغنية “عاللوما” الشهيرة لوديع الصافي، والتي كانت محطة فارقة في انطلاق شهرته. فقد حكت وداد أنه بعد ولادة انبتها البكر فاطمة بثلاثة أشهر، زارهم وديع برفقة زوجته، وأخذ عبد الجليل يلاعب الطفلة بأبيات شعرية تقول: “عاللوما عاللوما يا حلوة يا فطومة/دخل الله ودخل عيونك يا حلوي جننونا”.

تأثر وديع جداً بالكلمات بمجرد أن سمعها، وطلب منه أن يغنيها، ويستبدل اسم طفلته بكلمة “مهضومة”. ورغم إلحاح زوجته وداد في الحصول عليها، إلا أنه قرر أن يعطيها لوديع الذي كان في بداية مشواره، فغيّرت مساره الفني وكانت وراء شهرته. كما كوّن ثلاثياً ناجحاً مع كلٍّ من الملحن فليمون وهبي وبهية وهبي (وداد) في إذاعة الشرق الأدنى.

تغنى كبار الأصوات بكلمات عبد الجليل وهبي، التي ذاعت على كل لسان، ومن بينهم وديع الصافي الذي غنى الأغنيتين المذكورتين، بالإضافة إلى “تلاقينا”، “غلطنا مرة وحبينا”، كما غنت له صباح: “عالعصفورية”، و”يا طالعين الجبل”، وغنت نور الهدى: “بحبك يا ولفي بحبك”، ونجاح سلام: “وديله سلامي”، و”الزلغوطة”، ووردة: “سهرانة إيدي على خدي”، وفايزة أحمد: “بنتي قمورة”، وعبد الغني السيد: “يا حبيبي الله يخليك”، وفريد الأطرش: “يا مدلع يا حلو”، و”اشتقتلك”، وغيرها من الأصوات الكبيرة. كما يروي الحاج في الكتاب أن الملحن بليغ حمدي كان ضيفاً عليه في المطعم الذي أنشأه وسمّاه “ليتوال” في بيروت، وخلال الحديث بينهما، طلب منه بليغ أغنيةً من أجل عبد الحليم حافظ. وبعد فترة قصيرة كتب عبد الجليل أغنية يقول مطلعها: “الهوى هوايا/أبنيلك قصر عالي/وتصيري من حلالي/وشوف منّك عيالي/شُبّان وصبايا”. وبعد عودته إلى القاهرة، اعتذر بليغ منه بحجة أن الكلمات لا تنسجم مع لحنه، وأسند المطلع إلى الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي نظم الأغنية.

كان عبد الجليل وهبي من أوائل الشعراء الذين أسهموا في تأسيس مجد الأغنية اللبنانية، كان ملهماً لكبار الشعراء في العالم العربي مثل أحمد رامي الذي اقتبس منه بيتاً نسمعه في أغنية “عودت عيني على رؤياك”

في عام 1961، انتخب وهبي كأول رئيس لجمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان، نظراً لصداقاته الأدبية والفنية والمكانة المرموقة التي كان يحظى بها، وفي عام 1978 مُنح وسام الشرف من الجمعية ذاتها كما نال العديد من الجوائز والتكريمات من الدولة اللبنانية والعالم العربي وأوروبا. في منتصف السبعينيات غادر وطنه لبنان إلى الإمارات العربية المتحدة، واستوطن أبو ظبي، وافتتح مؤسسةً للإنتاج الفني، ومن ثم محلاً لبيع المجوهرات والأحجار الكريمة. في 13 كانون الاول/ديسمبر عام 2003 منحه رئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحّود وسامَ الأرز الوطني برتبة فارس، قبل أن يفارق الحياة في مساء يوم الجمعة الموافق 15 أبريل/نيسان عام 2005.

لا بد أن نشير إلى أن  الأب بديع الحاج  بذل جهداً مضنياً في هذا الكتاب المرجعي، فلم يكتفِ فقط بإدراج أسماء الأغنيات التي نسجها عبد الجليل وهبي، وأسماء من تغنّوا بها ولحنوها، بل دأب على تدوين نصوص أشعاره أيضاً، وتحليل السمات الأساسية والثقافة المرجعية التي استند عليها في قصائده، كما تناول الشركة الفنية التي أسسها، والإسهامات التي قامت بها في مجال الإنتاج الفني، إلى جانب تناول الظروف الخاصة بجمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى بلبنان، وأسماء الأعضاء الذين التحقوا بها. يحتاج هذا الكتاب الرصين إلى قراءات موسعة من قبل القراء والباحثين لأنه يعيد الاعتبار إلى واحد من كبار الشعراء في لبنان والعالم العربي.

Scan the code