التخطي إلى المحتوى

تقيم “غاليري صالح بركات” معرضاً لوليد صادق يضم 24 عملاً من الحجم الصغير، مشغولة بتقنيات ومواد مختلفة. جاء المعرض من دون عنوان، على ما لاحظنا، بعدما جرت العادة أن تُطلق تسمية على أي مشروع فني، قد تعبّر، إلى حد ما، عن المحتوى. لكن هذه المسألة، أي قصة العنوان، كان إهمالها مقصوداً، كما نخمّن، نظراً لطبيعة المحتوى المذكور.

أول ما يُثير الإنتباه، من الناحية الشكلية، هو “عدم التوازن” (الكلمة الأجنبية dispropotion تبدو أكثر ملاءمة) بين أحجام الأعمال وحجم القاعة الكبيرة، التي كان صالح بركات حوّلها، بجهد استثنائي، من مسرح إلى صالة عرض فسيحة. على أن هذا الأمر، وعلى عكس ما يمكن أن يُخيل للبعض، لم يلعب دوراً سلبياً من الناحية البصرية، بل جاء لصالح العرض والتلقّي. المقاربة “متحفيّة” (نسبة إلى متحف)، حيث توضع قطع صغيرة متباعدة، حين يسمح المكان والمساحة، كي يتمكّن المشاهد من تركيز انتباهه على العمل المعروض دون سواه، منعاً لتشابك مزعج وغير ضروري.

ينتمي وليد صادق إلى الجيل الأول من فناني ما بعد الحرب. كان من ضمن مجموعة من الفنانين ممن اتبعوا الأساليب الفنية المرتبطة بمرحلة ما بعد الحداثة (علماً أن هذا التيار كان ظهر في الغرب منذ منتصف سبعينات القرن الماضي). انشغلت جمعية “أشكال ألوان”، التي ساهم الفنان في نشاطاتها، بوسائل التعبير المرتبطة بالتيار المذكور، الموزّعة بين الفن الأدائي والتجهيز والفيديو والرقص المعاصر. أرادت الجمعية أن تقدّم بديلاً فنياً للنهج التقليدي، وذلك من خلال إهمال، أو رفض، مظاهر الإستيتيقا التي سار عليها الفن اللبناني، وغير اللبناني. استطاعت الجمعية، من خلال ما قامت به من مشاريع فنية، أن تؤدي دوراً واضحاً في هذا المجال، مستعينة بخبرات أجنبية في بعض الحالات. أما عمل صادق فقد إرتكز على الكتابة، كنشاط فني يتساوى مع غيره من الأفعال الفنية الأخرى، وتجلّى ذلك في منشوراته التي تضمّنت نقداً للأفكار والمفاهيم التي قام عليها السلم الأهلي خلال مرحلة ما بعد الحرب، أكان في مجال الثقافة، أو في مجال الفن.

لا بد، هنا، ورغم ضيق المجال، من التطرّق إلى مسألة الحداثة، إنطلاقاً من مبدأ “سيرة وإنفتحت”، إذ قد يكون هذا النقاش ذو فائدة للمهتمين بالمسألة. لقد صار السؤال يُطرح في غير مكان وقوامه: هل الحداثة عفا عليها الزمن، كما يزعم ما بعد الحداثيين؟ أو، على العكس من ذلك، أليست ما بعد الحداثة التي أعلنت أصوات كثيرة عنها، ليست سوى مجرّد ضجيج؟ أليست “ما بعد الحداثة” شعاراً يتيح لنا أن نطّلع خلسة على ردود الفعل التي أثارتها ردود الفعل على الحداثة الثقافية منذ منتصف القرن التاسع عشر؟ كما يتساءل المنظّر الألماني يورغن هبرماس، الذي يربط ما بعد الحداثة بنقد الحداثة الجمالية التي يمثلها، بالنسبة له، عالم الإجتماع المحافظ الأميركي دانيل بيل الذي يرفض كل حداثة جمالية، لكنه يشجّع الحداثة الإقتصادية بإسم النموذج الليبرالي البرجوازي المثالي.

يمكن النظر إلى هذا التساؤل على أنه فكرة عابرة، فالموضوع أكبر وأكثر تعقيداً من أن يُلخص في كلمات معدودة، قد تعالجه مقاربات أخرى، نظراً إلى أهميته في الوقت الحاضر، بصرف النظر عما نعيشه من أزمات تشغل بال الجميع. وبالعودة لمعرض وليد صادق، لا بد أن نذكر، ونتذكّر أيضاً، علاقة الفنان باللوحة والصورة، استناداً إلى الموقف الإختزالي الذي كان اتّبعه، والذي تخطّى اللوحة والتصوير، تكريساً للواقع الذي خضع في السابق للتفسير والتأويل وإعادة البناء وفق قناعات الفنان وميوله. لكن إدراك هذا الواقع، أو العالم الموضوعي في شكل عام، والذي عبّر عن إدراك جديد للعالم، وعن مفهوم جديد للفن، كان لا بد من أن يخضع لمؤثرات أخرى، فرضها العالم الموضوعي نفسه. لقد مر البلد، خلال السنوات الثلاث الماضية، بأزمات كبرى، تراكمت إلى حد لم يكن يتصوّره إلاّ أكثر الموغلين في التشاؤم. هذه المتغيّرات كان لا بد لها من أن تفعل فعلها في مجالات عديدة، ومن ضمنها الفن التشكيلي. (يكفي أن نشير هنا، على سبيل المثال، إلى أن أعمالاً فنية كثيرة إتخذت من انفجار المرفأ، ومن تبعاته، موضوعاً لها).

وكما جرى خلال فترات سابقة من دورة الفن الحديث، كان لا بد من أن تقترن الممارسة الفنية بالحس الإجتماعي للفنان، وأن يتوقف الصانع عند الظواهر المعبّرة، وعند المتغيّرات الطارئة التي شهدها المشهد المحلّي، وذلك من طريق الإدراك البصري المختلف. هذا، علماً أن الفن، كما نعتقد، ليس بنية فوقية تتساوى مع البنى الفوقية الأخرى، وهو يتمتع بإستقلالية نسبية إزاء المجتمع. في هذا المجال يقول هربرت ماركوز، في كتابه “المدى الإستيتيقي” (1979): “إن الوظيفة النقدية للفن تكمن في الشكل الجمالي. فالعمل الفني لا يكون صحيحاً أو حقيقياً لا بموجب مضمونه (أي التمثيل الصحيح للظروف الإجتماعية)، ولا بموجب شكله الصافي، بل لأن المضمون أصبح شكلاً”.

هذا الشكل نراه في أعمال وليد صادق، عبر عودته إلى اللوحة كمساحة تشكيلية من شأنها أن تلبّي الحاجة لتجسيد حالات شعورية، من دون أن تسمّي الأشياء بأسمائها، بل من خلال مساحات مربّعة، أو غير مربعة، صغيرة الحجم. على هذه الخلفية يتراكم الحدث، مجازياً، ويتكثف لوناً ومواداً مختلفة، يتراوح مردودها البصري بين مختلف درجات التقميش، ويتأرجح بين الإنسجام والتناقض، كما هي الحياة نفسها في مفاجآتها وتنوعها المذهل.

 

Scan the code