التخطي إلى المحتوى

يقول أرنست فيشر، في كتابه “الاشتراكية والفنّ”: “الفنّ يُمثّل قدرة الإنسان غير المحدودة على الالتقاء بالآخرين”.

تُحيلنا عبارة فيشر إلى سؤال جوهريّ حول الفنّ نفسه، الفنّ بمعناه العميق كانعكاس للحياة والمجتمع، الفنّ كوسيلة للتعبير عن أوجاع البشر وهمومهم، الفنّ كجزء تغييريّ ومؤثّر في حركة التّاريخ و المجتمع: أين هو الفنّ من أغنيات العرب اليوم؟

هل يمكن للفنّ الحقيقي أن يكون خاوياً ومنعزلاً عن مكانه وزمانه ومادته الأساسية الأهم؟

أضحك كثيراً حينما أسمع فنّاناً عربيّاً يتحدث بكثيرٍ من العجرفة عن النأي بفنّه وأغنياته عن أمور السياسة وقضايا المجتمع، أوَليست السّياسة والمجتمع موضوعة الفنّ أصلاً؟

كيف يمكن لمن يدّعي الانتماء إلى بيئة ما أن يتعالى على التعبير عنها؟

وهل يمكن للفنّ الحقيقي أن يكون خاوياً ومنعزلاً عن مكانه وزمانه ومادته الأساسية الأهم؟

قيمة الأغنية سياسيّاً وإبداعيّاً وتأريخيّاً

يفتقد الكثير من فنّاني هذه الأيام، الفهم الحقيقي لدورهم كفنّانين، الدور الذي لا ينفصل بالضرورة عن كونهم جزءاً لا يتجزأ من مجتمعات تمزّقها الحروب والأزمات، وتعبير الفنّان عن موقف متقدّم أو موازٍ لما يجري في محيطه، هو الذي يجعل ذلك الفنّ يبقى في الذاكرة، لأنّه ببساطة يؤرشف لتلك اللّحظة التّاريخيّة شعوريّاً. من هنا، تكون قراءتك لروايةٍ عن الحرب العالميّة الثانية، مثلاً، تجربةً أقوى بكثير من قراءة كتاب يوثّق لتلك المرحلة التاريخية ذاتها، لأن الشاعر أو الروائيّ يمتلك قدرةً أكبر على التقاط تلك اللّحظات الحسّاسة والتّجارب الذّاتيّة في مسيرة شعبٍ ما. إنّه يضعك في مواجهة مع حكايات بشر -لا مجرد أرقام- تستحقّ أن تُروى.

أضحك كثيراً حينما أسمع فنّاناً عربيّاً يتحدث بكثيرٍ من العجرفة عن النأي بفنّه وأغنياته عن أمور السياسة وقضايا المجتمع، أوَليست السّياسة والمجتمع موضوعة الفنّ أصلاً؟

أستعير هنا مقولةً للشاعر الفلسطينيّ معين بسيسو: “العالم كُلّه يقوم بطباعة الأدب الفلسطينيّ، ليس من قبيل التّضامن مع الشّعب الفلسطينيّ، ولكن لأن هذا الشعر يستحق من الناحية الإبداعيّة والسياسيّة أن يكون في واجهة المكتبة العالميّة”.

فهل يستحق الفنّ العربي الذي يعاني اليوم انفصالاً حادّاً عن المجتمع أن يبقى في الذاكرة أو يؤرشف أصلاً؟


أسباب تراجع الأغنية السّياسيّة وتطورّها

قد يُرجع البعض أسباب تراجع الأغنية السياسية إلى ضعف الروح القومية، تلك الرّوح التي أسّست للأغنية السياسيّة منذ بداية القرن العشرين.

فبينما كانت مصر تشهد ثورةً وطنيةً كبرى ضد الإنكليز في العام 1919، كان سيد درويش يضع أولى مداميك هذا النّوع الغنائيّ في أغنيته “بلادي… بلادي”. وعند الحديث عن الأغنية السياسيّة، لا يمكن البحث في أسباب ازدهارها وتراجعها بمنأى عن الحديث عن التحولات السياسية التي عاشها العرب على مدى قرن من الزمن. بل إننا إذا أردنا تشريح الأسباب الموضوعيّة لتراجعها، سنلحظ بالطبع المراحل التاريخية التي ازدهرت فيها الأغنية السياسية بين عشرينيات القرن الماضي وتسعينياته.

والحقيقة أن السّاحة كانت خصبةً للغناء السياسي خلال عقود طويلة، وكان الفنّ حينها محرّكاً لجماهير عريضة خرجت إلى الشوارع للتظاهر وشاركت في ثورات وانتظمت في أحزاب سياسية. وكان الاحتلال الجاثم على الأرض العربية، والصراع مع اسرائيل في لحظات استعاره التاريخية، والنّكبة وما سبقها من أغنيات ساندت السلاح ورجال الخنادق، وما تلاها من هزيمة وانكسار في الروح العربية، كل ذلك حضّر مزاج الجماهير العربيّة لاستقبال الأغنية السياسية كرفيقة وشريك أساسيّ في ميادين الحرب والسياسة، وكشاحذٍ للهمم في لحظات الهزيمة.

فالأغنية التي أسّس لها سيد درويش في العشرينيات، استمرت مع الشيخ إمام حتى الثمانينيات، وما بينهما أغنيات تقليديّة مجّدت المواجهة في الستينيات قبيل النكبة (عبد الحليم حافظ وأم كلثوم)، قبل أن تصل رياح التّجديد مع مارسيل خليفة وزياد الرحباني وأحمد قعبور وخالد الهبر.

قد يُرجع البعض أسباب تراجع الأغنية السياسية إلى ضعف الروح القومية، تلك الرّوح التي أسّست للأغنية السياسيّة منذ بداية القرن العشرين

مع بداية السبعينيات، بدأت مرحلة جديدة من الأغنية السياسيّة والاجتماعيّة، اتسمت بالتّجديد والثّورة على الشّكل التقليدي، وكانت تلك الأغنية الجديدة نتيجةً طبيعيةً لضعف الأغنية السياسيّة التقليديّة بما ابتلعته من انكسارات وهزائم في نهاية السّتينيات.

من لبنان انطلقت مرحلة التّجديد تلك، ولم يكن مستغرباً أن يتزامن ازدهار الأغنية السياسيّة الجديدة مع الحرب الأهليّة اللبنانية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. فقد أسس مارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر لأغنية سياسيّة تعتمد على الإيقاع بعيداً عن الجملة المقامية العربية. ولعلّ أغنية “أناديكم” التي كتب كلماتها توفيق زيّاد قبل النكبة بعامٍ واحد، ولحّنها أحمد قعبور بعد ذلك بتسع سنوات في مستشفى ميداني في بيروت في الأشهر الأولى للحرب الأهلية، وأدّاها قعبور نفسه على مسمع الجرحى الفلسطينيين واللبنانيين كرسالة لنبذ الخلافات والتوحّد في مواجهة عدو واحد، هي الأغنية الأشهر التي واكبت مسيرة الكفاح المسلح في فلسطين ولبنان، وما زالت الأغنية السياسية الأكثر حضوراً في الوجدان العربي حتى اليوم.

ومع تراجع الحركة الوطنية في بداية الثّمانينيات، تراجعت الأغنية الوطنية، وصار لزاماً على الأغنية السياسيّة التعامل مع واقع عربي جديد فرضته الأنظمة العربية، فظهرت أغنيات تدور في فلك السلطة وأغنيات تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي آنذاك.

في مصر، بقيت تجربة الشيخ إمام الأكثر حضوراً في الذاكرة والوجدان العربيين منذ الستينيات. وإذا كان الشيخ إمام قد التزم بإيقاعات ومقامات الموسيقى العربية، لكنه حافظ على مكانه كجزء رئيسي من الحركة الثورية المصرية.

في مصر، بقيت تجربة الشيخ إمام الأكثر حضوراً في الذاكرة والوجدان العربيين منذ الستينيات. وإذا كان الشيخ إمام قد التزم بإيقاعات ومقامات الموسيقى العربية، لكنه حافظ على مكانه كجزء رئيسي من الحركة الثورية المصرية

وفي بداية الثمانينيات، كانت تجربة محمد منير لافتةً في فرادتها، شعراً وموسيقى وغناءً، وكانت أغنيتاه “الليلة يا سمرا” و”شبابيك” من أهم الأغنيات التي تناولت الواقع الاجتماعي والسياسي وساندت النضال الجماهيري المصري. ولعلّ شراكة منير في أغنياته تلك مع شعراء عاشوا ظروف الاعتقال ودفعوا ثمن الموقف والكلمة، كمجدي نجيب الذي كتب أغنية “شبابيك” من داخل زنازين الاعتقال في السّتينيات، والشاعر الشيوعي فؤاد حدّاد الذي كتب رائعته” الليلة يا سمرا” من داخل معتقله أيضاً، هي التي جعلت تلك التجارب الغنائية السياسية والاجتماعية موغلةً في الصدق. والأجمل في أغنيات منير تلك هي الرمزيّة التي استند إليها مجدي نجيب وفؤاد حدّاد وكوثر مصطفى للتعبير عن واقع مصر الاجتماعي والسياسي، فكانت مصر هي الحبيبة في كلّ مرة.


وإذا كانت الأغنية السياسية العربية الجديدة قد ركّزت على الثورة على الواقع الاجتماعي والتّوق إلى الحريّة والديموقراطية، فقد أولت الأغنية السياسية الفلسطينية اهتمامها للتأكيد على الهويّة الوطنيّة والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني ودعم النضال الفلسطيني. وعلى هذا التقت الأغنيتان معاً، وإن اختلفت الأولويّات على إيقاع التطورات السياسية والاجتماعية.

الأغنية السياسية المعاصرة

محاولات متواضعة هي التي توجب الحديث عن أغنية سياسيّة معاصرة. فبالرغم من أن البلاد العربية المشرّعة للثورات والحروب والأزمات ما زالت مادةً دسمةً للتناول، واليوم أكثر من أي وقت مضى، لكن يبدو أن الأغنية السياسية تراجعت لصالح الأغنية الاستهلاكية والتمجيدية المدعومة إنتاجياً، وبقوة الأنظمة التي سعت إلى تحجيم الأغنية السياسية التي أثّرت في الوعي الجماهيري وحملت نفساً ثوريّاً وتحريضيّاً.

يبدو أن الأغنية السياسية تراجعت لصالح الأغنية الاستهلاكية والتمجيدية المدعومة إنتاجياً، وبقوة الأنظمة التي سعت إلى تحجيم الأغنية السياسية التي أثّرت في الوعي الجماهيري وحملت نفساً ثوريّاً وتحريضيّاً

بالعودة إلى الأغنية المعاصرة، أخذت الأغنية السياسية أشكالاً مختلفةً للتعبير الموسيقي، مختلفةً كل الاختلاف عن الشّكل الكلاسيكي والتقليدي الذي طبعها لعقود، ومختلفةً عن الأغنية السياسية الجديدة التي أسّس لها اللبنانيّون في مطلع السّبعينيات، فازدهرت مثلاً موسيقى الراب التي ترافقت مع كلماتٍ لاذعة تنتقد الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة. فبدل إضفاء روحٍ موسيقيّة شرقيّة على تلك الأغنيات التي تخاطب الشعوب العربية، اختار كثيرون قوالب موسيقيّةً غربيّةً جاهزةً، وألصقوا عليها كلمات عربيّة، فبدت الأغنية مغتربةً عن جزء كبير من الشعوب العربية التي تخاطبها أو تحاكي همومها.

أحببنا تلك الموجة الموسيقيّة الجامحة أم كرهناها، لكننا بالتأكيد مضطرون إلى الاعتراف بأنها أتاحت القدرة للشباب العربيّ على التعبير عن مواقفهم في السياسة والحياة بعيداً عن أبويّة الشكل الكلاسيكي للأغنية السياسية العربية.

لكن تلك التجارب، على أهمية بعضها، لم تُثبت مكانها كتجارب جديّة، فبقيت حبيسة محليّتها، ولم تنجح في تثبيت أقدامها على خريطة التأثير المجتمعي العربي.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

  • حياة

    “زرت الأماكن الدينية، وصلّيت، ومارست الجنس”… سياحة العراقيين الرائجة في إيران

  • سياسة

    تناقضات داخل معسكر السلطة… عن الخلاف بين قيس سعيد والنقابات الأمنية

  • سياسة

    لاجئ سوري يُقتل لأنه أضاع النرجيلة… “تضامن المجتمع” لا يكفي لتحقيق العدالة

  • سياسة

    رشيد ثابتي… العميل الوسيم الذي مكّن الجزائر من تأميم نفطها

  • مجاز

    حياة كاملة فوق السرير

Scan the code