«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا ـ 8: فازت بجائزة أفضل ممثلة وتحدثت لنا عن التمثيل وبعض أسراره
لدى الممثلة كيت بلانشت أربعة أفلام جديدة للعام الحالي، تختلف كثيراً فيما بينها. هي بطلة من بطلات فيلم الخيال العلمي «Boerderlands»، وهي صوت شخصية سبرتاتورا الشهيرة في النسخة الجديدة من «Pinocchio» ثم المعلق على أحداث فيلم «The School of Good and Evil».
الفيلم الرابع هو «تار» (Tàr)، الذي عُرض في مسابقة مهرجان فينيسيا، والذي لا يرشحها فقط لجائزة أفضل ممثلة في هذا المهرجان، بل سيمدها، على الغالب، بما يلزم من طاقة لكي تصل إلى سباق أوسكار أفضل الممثلات في العام المقبل.
من فيلمها الجديد «تار»
بين مولر وباخ
الغالب أيضاً أنها لن تقطف ثمار الترشيحات الأميركية المقبلة (من الغولدن غلوبس إلى الأوسكار مروراً بجائزة جمعية الممثلين وجوائز المؤسسات النقدية) وحدها، بل سيشاركها في ذلك كل من الفيلم، بحد ذاته، والمخرج تود فيلد الذي يعود من الكوكب الآخر الذي كان يعيش فوقه بعد 16 سنة من الغياب.
«تار» ليس بالعمل السهل ولا تمثيل بلانشِت فيه، لاعبة دور امرأة ذات هوس فني وتاريخ من المصاعب الشخصية اسمها ليديا تار، يمكن أن يوصف بأي شيء سوى البراعة والقوة. هي الفيلم كله إلى حد بعيد. لكنه أيضاً الإطار الكبير الذي لولا تمكن مخرجه من تلك الأدوات الفنية المستخدمة لتقديم الحكاية والشخصية التي تقودها، كما استحوذ الفيلم على هذا القدر من نجاح مهمته.
هي قائدة أوركسترا (شخصية خيالية) على أهبة اعتلاء المنصة لتقديم السيمفونية الخامسة لغوستاف مولر. نراها كذلك في حديث صحافي لمجلة «ذا نيويوركر» يمتد، في الفيلم لنحو ربع ساعة، تتحدث فيها عن نفسها قائدة أوركسترا، وعن تاريخها امرأة وعن مولر وحياته. لا تتوقف كثيراً عندما يسألها الصحافي آدم غوبنك (يؤدي دوره بنفسه) عن رأيها في مسألة أن تقود امرأة الأوركسترا. هي لا ترى في ذلك أي مدعاة للتمييز، وترى، وهي ما زالت تدلي بإجاباتها على أسئلة الصحافي، بأن الموهبة لا تعرف جنساً، مهما كان نوع العمل الذي يقوم به الفرد.
إلى ذلك، تحتوي المقابلة التي نتابعها كما لو كانت كايت بلانشِت تقوم بها على منصة المهرجان نفسه، على آرائها في الحياة العامة وبالجيل الجديد من طلاب الموسيقى الكلاسيكية، وفي علم النفس، ولديها مواقف ومدارك تؤكد أنها تعلمت أن تكون سيدة نفسها.
نسمعها لاحقاً في حديث طويل آخر مع طلابها. تدعوهم فيه لفهم الموسيقى والموسيقار معاً إذا ما أرادوا تحقيق النجاح الذي يصبون إليه. وعندما يفصح أحدهم عن رأيه السلبي في باخ، تدافع عنه بتقديم عزف (على البيانو) لإحدى مقطوعاته، ومن ثَم تقول للطالب الشاب ما يُفيد بأن الرأي السلبي في أي موهبة من وزن باخ هو أمر «صبياني».
تمتلك الممثلة كل القدرة على أن تمارس، في الفيلم، ذات السُلطة التي تمارسها شخصيتها. المقصود هنا هي أنها تؤدي الدور ليس فقط كما لو كانت لديا تار امرأة حقيقية، بل بالطريقة الوحيدة التي تفي بغاية تجسيدها وهي أن تكون كايت ممثلة، واثقة تماماً من امتلاكها قيادة الفيلم كحال الشخصية التي تؤديها حيال موسيقاها وحياتها الخاصة والعامة.
الحديث عن براعة بلانشِت أمر مفروغ منه منذ أن شوهدت في فيلم «إليزابيث» لشيخار كابور سنة 1998، وهي كان لها دور عابر في فيلم ستانلي كوبريك «Eyes Wide Open» الذي ظهر فيه كذلك تود فيلد قبل أن يتحول إلى الإخراج.
بعد ذلك هي في مصعد سريع صوب القمة مع أدوار مهمة في أفلام ناجحة مثل «The Talented Mr. Ripley» (الموهوب مستر ريبلي، 1999)، و«شارلوت غراي» (2001) و«فيرونيكا غويرن» (2003)، وفي دور الملكة إليزابيث في فيلم آخر عنوانه «إليزابيث: العصر الذهبي» (2007)، ونحو 10 أفلام أخرى ميزتها بحضورها من بين قرابة 80 فيلماً مثلتها حتى الآن.
منذ «سيد الخواتم: زملاء الخاتم» (بيتر جاكسن، 2001) قبلت بالتوجه صوب الأعمال التي تُعد استهلاكية، كما الحال في مسلسل «Thor» و«Ocean›s Eight» لكن حتى في هذه الأفلام حافظت على سلوك السيدات الأنيقات والجادات كما كان حالها في سلسلة «سيد الخواتم».
وهذه الملاحظة أردتها بداية للحديث حتى من قبل أن نسبر غور فيلمها الجديد.
كما بدت في «سيد الخواتم: زملاء الخاتم»
إيجابي وسلبي
> في العديد من أفلامك تؤدين صورة سيدة (lady) في أي مناسبة أو دور. تحت إدارة وودي ألن في «بلو جاسمين»، وتحت إدارة ترنس مالك في «Knight of Cups» و«Song to Song» وفي «كارول» لتود هاينز. وحتى في أفلام المسلسلات الرائجة مثل «Thor». هل يأتي هذا النوع من الأداء طبيعياً كامتداد لشخصيتك، أم هو فعل تطلبه تلك الأفلام؟
– هذه ملاحظة لم أسمعها من قبل. لكنها مهمة وأشكرك عليها. طبعاً أحاول الانسياق في شخصياتي والكثير منها مختلفة في العناصر التي تشكل سلوكياتها وفي مجمل حياتها. لكن لا أعتقد أنني سأكون مقنعة لو أني مثلت دوراً لا يتطلب مني غير ما وصفتني به. كل ممثل يحمل شيئاً من نفسه إلى الدور حتى ولو كان تعلم كيف يدخل الشخصيات ويؤديها من داخلها. لكن حجم هذا الدخول يختلف. وللصراحة فإن ما يتركه الممثل من أثر أول هو الذي يطغى على مجمل أدواره فيما بعد. أعتقد ذلك.
> طبعاً يفرض الدور اختيار الشخصية لتصرفاتها. مثلاً في «بلو جاسمين» تتحدث القصة عن امرأة نيويوركية تعودت على حياة راقية وميسورة. لو قُدمت على غير هذا الوضع لتغير الفيلم إلى حد كبير. هل توافقين؟
– تماماً. في هذه الحال فإن العديد من التصرفات ستتغير. لو لعبت شخصية «جنجر» (شقيقة جاسمين في الفيلم وأدتها سالي هوكينز)، ولعبت هي شخصيتي لحمل الفيلم صورة مخالفة صعب وصفها. المخرجون الجيدون مثل ألن ومالك والعديد ممن عملت معهم، يدركون ذلك مثلما يدرك الشخص ما يحب أن يلبس أو أي فيلم يحب أن يراه.
> هذه الشخصية الخاصة بك تتكرر في «تار». هي امرأة ذات مدارك واسعة وخبرات عديدة وذات سيطرة على مقادير حياتها. لا تشعر بالذنب حيال الماضي ولا بالقلق حيال المستقبل.
– صحيح لأنها كتلة واحدة من القرارات والأفعال. لكني لا أعتقد أن هذه الشخصية فريدة، بل نلتقي بها في حياتنا اليومية بصرف النظر عن المهنة التي تمارسها وتقوم بها. الفنان لا يختلف بل يتطور. البعض منهم يخفي تردده أو مشكلاته النفسية، ويتغلب عليها طالما هو في دائرة الضوء. البعض الآخر يعكس تلك الشخصية الخاصة به في وضعها المتردد، أو الذي يقترح أنه يريد فعلاً أن يبدو في أعماله على هذا النحو.
> «تار» ليس فقط عن حياة قائدة أوركسترا، بل عنها في مواجهة السوشيال ميديا. كيف تجدين هذا الصدام الذي يقترحه الفيلم؟
– أرى أنه واقع. السوشيال ميديا بكل تأكيد لها قوة إيجابية وأخرى سلبية، ونحاول جميعنا في هذا العصر توخي الحذر في أن نجد أنفسنا محط خلاف مع الإعلام عموماً، لأن ذلك سيؤثر علينا إذا ما التقط شيئاً ليس واقعاً أو حقيقياً بل إشاعة. حتى ولو التقط شيئاً من الواقع فهو لن يبحث فيه بعمق ولا ينوي أن يستجوب الحقائق قبل إطلاق ما لديه من معلومات قد تكون مزيفة. هذا هو الوضع. يخدمنا أحياناً وينقلب علينا أحياناً أخرى، وفي الحالتين يسعى للنجاح على حساب الشخصيات. لا أريد طرح الموضوع خارج إطار الفيلم، لكني أفسر ما أورده الفيلم فعلاً.
> هل صحيح أن (المخرج) تود فيلد أرادك للدور، وكتب السيناريو، وأنت في باله؟
– (تبتسم) هذا صحيح.
دراسة في الأنا الفردية
* دورك هنا يتحدث عن امرأة لديها ميول مثلية، وسبق لك بالطبع أن لعبت بطولة «كارول» لتود هاينز، وهو بدوره عن امرأة بميول مثلية. طبعاً هناك طن من أفلامك لا يتناول هذا الوضع، لكن هل تقدمين على تمثيل هذا الدور من باب الاختلاف أو التجديد؟
– المسألة ليست هنا على هذا النحو الذي ذكرته. الحاجة لأداء أي شخصية على الإطلاق تتصل بالرغبة في تجسيد فعل نفسي ودرامي عندي. سألوني في المؤتمر الصحافي سؤالاً شبيهاً بسؤالك، وكان جوابي أيضاً أن المسألة أعمق وأعقد بكثير. قلت إن الفيلم يتحدث عن امرأة وفيه شخصيات نسائية كثيرة ليس عن النساء فقط.
> كيف ذلك؟
– إنه عن الإنسان، أو عن الناس في طبائعهم. عن الإنسان كإنسان أولاً وقبل الحديث عن ميوله. الفيلم يستعرض أوجه الشخصية المختلفة، وكل واحد منا فيه جوانب عدة وليس جانب واحد.
> تصنيف الأفلام بين تلك التي تتحدث عن ميول جنسية مثلية، وبين تلك التي لا تكترث للموضوع، ليس صحيحاً، لكن الإعلام يمارسه بطلاقة
– المثلية في «تار» هو جهاز. الفيلم ليس عنها. حين أقبل بتمثيل دور ما لا أفكر في هذا الشأن. لا يهمني إذا ما كانت مثلية أو لا، هذا هو حكم النص عليها. هناك حكاية لا بد أن تُسرد وأنت تقبل بها أو لا. بالنسبة لي لا أفكر في الموضوع، ولا يهمني الوضع إلا كامتداد للحكاية التي أقوم بها. هي ليست جزءاً من تفكيري مطلقاً.
> كيف تخضعين الدور ليناسب قدراتك؟ أقصد أننا هنا لا نعرفك موسيقية، وبالتالي لا بد من أن التحضير للدور تطلب الكثير من المعلومات عن الشخصية، ربما لم تكن موجودة في السيناريو.
– إذا سنحت لك فرصة قراءة السيناريو فلن تجد فعلاً أي وصف لما تقوم به شخصية ليديا تار. هذا ليس من مهمة السيناريست لأنه حين يقول «تعزف» فإنه لا يذكر كيف ستعزف. تلقائياً يحدد أنه سيطلب من الممثل أن يكون جاهزاً لكي يؤدي الدور بما هو عليه.
> وفي غير هذا الفيلم؟
– التمثيل عندي هو دراسة تلتحم في «الأنا» الفردية. تدرس الشخصية وتحاول أن تفيها حقها وإلا فلن تكون لديك رغبة حقيقية فيها. ومن ثَم تجد نقاط اللقاء بينك وبينها.
> طبيعي. في بعض الأفلام يدارون ذلك بزوايا للكاميرا، تخفي حركة الأصابع الفعلية على البيانو مثلاً.
– في فيلم مثل هذا الفيلم، يقوم بكامله على عالم الموسيقى الكلاسيكية، لا يمكن اصطياد فرص الهروب بهذه الطريقة التي تصفها. كل ما فيه يأتي تلقائياً كحالة واحدة ملتصقة بعضها ببعض. كان عليّ دراسة الشخصية التي أقوم بها وأتقن ما تقوم به وهذا فعل واحد لا يتجزأ.
> حين شاهدت الفيلم لم أرَ ممثلة تدافع عن شخصيتها، بل تكتفي بتقديمها كما هي. هل هذا رأي صائب؟
– بالتأكيد. الفيلم لا يطرح أساساً أي رغبة في أن تكون ليديا موضوع حكم المُشاهد لها أو عليها. هي شخصية رئيسية، لكنها ليست بالضرورة شخصية تطلب لنفسها عدالة من أحد. المطلوب منها أن تكون هي وأن تفرض على المُشاهد معاملتها باحترام، وافق معها أو لم يوافق.
> أعرف أني أخذت من وقتك الكثير، لكن لدي هذا السؤال الذي لا يبرح خاطري وناتج عن احترامي وإعجابي الكبيرين بأفلام ترنس مالك. هل هناك من مشروع فيلم ثالث بينكما؟
– الآن لا يوجد شيء. لكني أنا أيضاً معجبة جداً بأفلامه، وإذا طلبني للعمل معه من جديد فلن أتأخر.