القاهرة: «الخليج»
يؤكد هذا الكتاب أن الغياب لم يُفقِد عميد الرواية العربية نجيب محفوظ حضوره وألقه؛ فهو لا يزال بعد مرور ستة عشر عاماً على وفاته، مؤثراً في الساحتين العربية والعالمية، بدليل حضور أدبه في كبريات جامعات العالم، وإقبال أشهر المترجمين على نقل رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته إلى كثير من اللغات الحيَّة، فضلاً عن الارتفاع اللافت في أرقام مبيعات كتبه حتى اليوم.
وهذا الكتاب وعنوانه «نجيب محفوظ شرقاً وغرباً» للطبيب شريف مليكة، والكاتب والناقد مصطفى عبد الله، يضُم 21 دراسة وشهادة مهمة، بعضها بالعربية والآخر باللغة الإنجليزية، وكلها تدور حول نجيب محفوظ الكاتب والإنسان؛ فيُقدِّم الدكتور صبري حافظ دراسة عن حركة ترجمة الأدب العربي إلى لغات العالم، وكيف تغيَّر إيقاعها بفضل تتويج «محفوظ» بجائزة نوبل.
ويستعيد الناقد، بريطاني الأصل أمريكي الإقامة، روجر ألن، سيرته مع محفوظ وكيف قادته المصادفة للقائه بمكتبه في قصر عائشة فهمي بالزمالك، وكيف ترجم له عدداً من أهم أعماله إلى الإنجليزية، ويوضح أهمية إبداع محفوظ على المستوى العالمي، وهو يُطلعنا على الرسائل التي وصلته بخط يد نجيب محفوظ على امتداد سنوات.
بينما يتناول الأمريكي ريموند ستوك تجربته مع ترجمة بعض أعمال «محفوظ» إلى الإنجليزية ويعترف بفشله في الحصول من محفوظ على اعترافات تتعلق بسيرته الشخصية، في حين أن الدكتور حسين حمودة يتوقف أمام فكرة «العتبة» على المستويين الحرفي والمجازي في روايات نجيب محفوظ.
** ملامح
وتحت عنوان «المرايا.. رواية سير ذاتيَّة» يأتي بحث الناقد التونسي الدكتور محمد آيت ميهوب الذي يتتبع فيه كيفية تعامل النقاد العرب والأجانب مع عمل واحد من أعمال محفوظ اختلفوا في تفسيره، بل وتصنيفه، بينما يكتب الأكاديمي الجزائري الدكتور عبد القادر فيدوح عن «الملامح الفكرية في روايات نجيب محفوظ» ويطرح الروائي التونسي المقيم في فرنسا أبوبكر العيادي رؤية خاصة لـ «محفوظ» وأدبه، ويأتي بحث الدكتور عبد البديع عبد الله تحت عنوان «نجيب محفوظ وطفراته الثلاث في الفن» في حين تُحلِّل الدكتورة فوزية العشماوي شخصيات محفوظ النسائية.
وتحت عنوان: «الحَرِّيف وأسرع هدَّاف في زمانه!» يتابع الروائي ناصر عراق «محفوظ العائش في محراب السينما المصرية» وحول قضية الكتابة عند عميد الرواية يكتب الروائي أحمد فضل شبلول، بينما يتأمل الدكتور ماجد موريس إبراهيم «الحِسُّ الصوفي عند نجيب محفوظ».
ثم تتوالى شهادات محبي نجيب محفوظ، ويقدم الدكتور أحمد درويش للكتاب مؤكداً أن هذه الكتابات في مجملها تؤكد المعنى الذي قاله محفوظ نفسه في رثاء صديقه الفنان الكبير محمد عبد الوهاب: «لقد أخذ الموت منك ما استطاع، وترك لنا ما لا يمكن للموت أبداً أن يأخذه وهو روح الفن العظيم».
نجيب محفوظ بعد ستة عشر عاماً من رحيله، يحتل المكانة نفسها التي كان يشغلها في حياته، وهي المكانة التي شكَّلها أدبه، ولهذا فإن رحيله لم يزدها إلا اتساعاً ورسوخاً، ولأنها مكانة تكوَّنت في مهلٍ وأناةٍ وإتقانٍ ونمو متواصل، فقد اكتسبت طواعية المواءمة للأجيال المتعاقبة، والتمتع بها، والنقاش حولها، والاتفاق والاختلاف حولها دون إمكانية إهمالها أو تناسيها أو تجاهلها، لقد أصبحت جزءاً من مكوِّنات الأدب العربي والعالمي.
**علامات
ظل محفوظ يكتب ويقرأ، ويتلقى ويرسل طوال حياته، وكان يُصرح بأن الكتابة بالنسبة له «نفَس الحياة» ويدعو الله أن يجعلها آخر ما يسلبها منه من علامات الحياة، وقد استجاب الله لدعائه فمات والقلم قريب من أصابعه، والأوراق قريبة من عينيه، ومواضع الإبداع تعمر رأسه حتى وهو يبتسم في لحظات الاحتضار، ويرحب بمستقبليه الذين ينتظرونه على محطة القطار في رحلته الأخيرة.
في ضوء هذا التنوع الثري لحياة نجيب محفوظ وأدبه، والامتداد الرأسي والأفقي لكتاباته واهتماماته، جاءت هذه المجموعة من المقالات والأبحاث القيمة التي تتكامل ولا تتفاضل، ولا يعني ورود بعض هذه المقالات في ترتيبها في الكتابة داخل الكتاب سابقة أو لاحقة أيَّ حكمٍ بالقيمة أو الأفضلية ارتفاعاً أو انخفاضاً.
إننا مدينون جميعاً لنجيب محفوظ صاحب هذا العطاء الثري العظيم الذي يسمح للأجيال المختلفة، على تنوع ثقافاتها ولغاتها، بأن تروي وتُشبع ظمأها الفني، وتنطلق منه إلى آماد لا متناهية في إثراء النص الأدبي للنفس وللحياة، للفرد وللجماعة