القاهرة: «الخليج»
طرحت مكتبة «ديوان» صاحبة الحق في نشر أعمال نجيب محفوظ ورقيّاً، مجموعة من الأغلفة الجديدة، لكن الجدل حولها لم ينقطع حتى تلك اللحظة، وأغلب الآراء تعبر عن صدمتها من شكل الأغلفة، الذي لا يتناسب مع قيمة محفوظ الجمالية، وانطلقت آراء أكثر حدة بخصوص هذه الأغلفة، حين عرف كثيرون أن المصمم انتهى منها في أعقاب قراءته محفوظ بالإنجليزية، أي أنه لم يقرأ محفوظ في نسخته العربية.
هذا السجال الذي يواكب الاحتفال بذكرى رحيل محفوظ، نهاية هذا الشهر، يفتح الباب للوقوف على علاقة صاحب نوبل في الآداب 1988 بالفن التشكيلي، وعلاقة الرسوم التي أنجزت لأغلفة كتبه، في هذا الصدد، فقد أصدر الشاعر والروائي أشرف أبو اليزيد كتابه «نجيب محفوظ السارد والتشكيلي» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مؤكداً على الدور الاستثنائي الذي أداه الروائي الكبير نجيب محفوظ، وهو دور تخطى حدود فن السرد الأدبي إلى فضاءات الفنون التي تماست معه.
يعمل أبو اليزيد في هذا الكتاب على التشكيل، ولا يقصر الحديث عن التشكيل بحدود التصوير الكلاسيكي، وإنما ينطلق إلى الفنون الأخرى المرتبطة به، مثل الحفر والرسم والكاريكاتير والشرائط المصورة والنحت، وصولاً إلى صناعة الكتب، وتصميم أغلفتها، وملصقات الأعمال الفنية والفعاليات الثقافية، بل والرسوم الجدارية.
تساؤلات
وكانت علاقة محفوظ بالفن التشكيلي، مثار تساؤلات مستمرة، كشف عن مضمونها الناقد والفنان محمود بقشيش، الذي أشار – في لقاء إذاعي – إلى ميل محفوظ إلى التكوين المعماري المجسم، ليس فقط في أشكال البيوت والمقاهي والأزقة، بل في أشكال البشر، وعلاقاتهم بالأماكن التي يحيون فيها، فالمكان عنده لا يقوم بدور خشبة المسرح؛ أي لا يكتفي باستضافة فريق يقدم احتفالاً وقتيّاً، بل على العكس شغل المكان حيز بطل من أبطال العمل الدرامي.
يقول أبو اليزيد إن الحديث عن الفن في أعمال نجيب محفوظ يمكن أن يمتد، فتكون له بداية لا نهاية، مستهلاً بمشروع الفنان الكبير الحسين فوزي في مجلة الرسالة الجديدة عام 1954 لرسم رواية «بين القصرين» ومن ثم مشروعه الأشهر في جريدة الأهرام، لنشر رسوم رواية «أولاد حارتنا» يومياً.
استلهم الفنان الحسين فوزي نص نجيب محفوظ، وعاشه، من خلال تجربة شخصية وخبرة فنية، ليقدم لنا تلك اللوحات، التي أضافت أبعاداً جديدة لتلقي أدب الكاتب عند جمهور أوسع، وكان هناك حوار خفي بين تلك النصوص البصرية ونصوص الفنان جمال قطب التي جسدتها لوحاته على أغلفة وداخل متون الروايات، فلا يأتي أحدٌ على ذكر روايات نجيب محفوظ إلا ويذكر الرسام الأشهر لأغلفتها، الفنان جمال قطب.
لم يكن الفنان جمال قطب يحب لقب «رسام محفوظ» فعلى الرغم من أن نجيب هو أديبه الأول، والمفضل لديه: «لكنني أرفض أن أوصف هكذا، وأظن أن ذلك مخالف للواقع، كما أنه لا يمكن أن تعجب مثل هذه التعبيرات نجيب نفسه، علاقتنا كانت عملية ومهنية فقط، وأنا رسمت لكبار الأدباء في العالم العربي، وكانت لي علاقة وثيقة ببعضهم، مثل: يوسف إدريس وثروت أباظة».
ترجم قطب أعمال محفوظ الروائية إلى صور للأغلفة، ورسومات داخلية، من شخصيات محفوظ الروائية، وكانت أغلفته لا تخلو من صور للنساء، تبدو كلها وكأنها ملامح لشخصية واحدة، ويعلل قطب ذلك بأنه حاول ترجمة أعمال محفوظ بخط متوازٍ مع عالمه الأدبي فمصدر إلهام محفوظ هو الحارة المصرية، والمرأة لها دور لا يمكن الاستهانة به، خصوصاً في تلك الأماكن، ولا ينفي أنه كان يضع في اعتباره عند البدء في التخطيط لرسومات روايات محفـــــــوظ أن الكتــــاب له أيضاً صفة تجارية.
سرديات
كان الفنان سيف وانلي واحداً من الفنانين الأقدر على تصوير كتابات محفوظ، وقد أنجز رسوماً مصاحبة لمرايا نجيب محفوظ المنشورة، في عام 1971 بمجلة «الإذاعة والتليفزيون» وقد اعترف محفوظ للمترجم روجر آلن أنه كان يعمل مع صديقه الفنان السكندري؛ سيف وانلي، على مجموعة من السرديات القصيرة عن المصريين، هذه القطع الأدبية، مع رسوم سيف وانلي، لم يكن بالإمكان طباعتها في الأماكن المعهودة التي نشر بها محفوظ، بسبب الحاجة لنشرها ملونة، لذلك، ظهرت في مكان غير مألوف، وهو مجلة الإذاعة والتلفزيون.
لم يكن مفاجئاً أن تختار «دار الشروق» الفنان حلمي التوني ليعيد رسم أغلفة أعمال نجيب محفوظ، بعد الحصول على حقوق نشر أعماله وهنا بدأت رحلة جديدة لعناق الأدب والفن، للقاء الأديب والتشكيلي، وبشكل عام، لم يعد اسم نجيب محفوظ صغيراً على الغلاف، بل تصدره، كأكبر أيقونات التكوين، هنا يصبح الاسم هدفاً لذاته، تختلف الأرضيات، وتتنوع الأيقونات، وتتبدل الألوان، ويبقى الاسم مزهواً بخطه القوي.
كم من مرة أعاد فيها محفوظ تشكيل سرده، لنجده يثور على الصيغ التي آنسها وآلفها، فيقدم ثورة ذاتية، تنهض بشكل أدبي جديد، هكذا فعل في عملين مهمين: «أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة».
وكان الفنان محمد حجي مكلفاً بعمل رسوم تصاحب «أحلام» نجيب محفوظ التي كانت تنشر في إحدى المجلات النسائية الشهيرة آنذاك.
وقام بإنجاز (135) رسماً نشرت على مدى أربع سنوات.
أحلام
يرى الكاتب والقاص محمد المخزنجي أنه حين تصدى الفنان محمد حجي لتقديم رسوم مصاحبة لنصوص نجيب محفوظ «أحلام فترة النقاهة» لم يكن يقدم ترجمة تشكيلية لهذه الأحلام، بل كان يقدم أحلاماً موازية أيقظتها في نفسه هذه النصوص الحلمية، التي أخطأ كثيرون بالتعامل معها كأحلام منام، وما هي كذلك، فهي تحديداً أحلام فنية، شأن نصوص الأدب الجيدة جميعاً، بل شأن كل ألوان الفنون التي يمكن تلخيص جوهرها في أنها ألوان من الحلم يتضافر الوعي واللاوعي معاً في إنجازها.