يوسف أبولوز
في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.
يجمع بين الشعر والرواية والمسرح والإعلام.. و«المتنبي»، ولعلّ المتنبي هنا هو مرض جمال مطر الجميل، فلم أعرف كاتباً أو فناناً أو شاعراً أو مسرحياً عربياً مفتوناً بالمتنبي مثلما هو الأمر عند هذا المخرج والكاتب والذوّاقة و«البارومتر الجمالي» بلا مبالغة، وبخاصة حين تتركه يفحص خميرة العمل المسرحي وهو يدقق في النصّ ويتخيل العرض، وينتقي الأنسب من الممثلين لعرضه المفتوح على الخشبة التي يعمّرها بيديه عمارة أستاذ في هندسة المسرح.
ولد جمال مطر في الشارقة في عام 1963، قريباً من منطقة «الرولة»، و«الرولة» كما يعرف أهل الإمارات والمقيمون القدامى شجرة في منطقة الشارقة القديمة بالقرب من «الشويهيين»، والمكان استعار اسمه من الشجرة التي ستصبح شكلاً من أشكال الذاكرة المكانية والسكانية لأهل الشارقة، وهي شجرة وارفة دائمة الخضرة، وبحسب مادة توثيقية منشورة تقول الباحثة لطيفة المطروشي، إن شجرة الرولة تعود إلى أكثر من 150 عاماً غُرست من قبل الشيخ سلطان بن صقر بن راشد القاسمي 1803-1866، ومن الضروري الإضاءة على هذا المكان الشارقي وشجرته، حين نرسم صورة قلمية لشخصية جمال مطر، حيث مكان طفولته الأول، وسيصبح ذلك الطفل مسرحياً معروفاً ومميزاً في الإمارات وفي الخليج العربي، وتصدر عن جمعية المسرحيين الإماراتيين مجلة مسرحية متخصصة باسم «الرولة».. ذاكرة العديد من المسرحيين الإماراتيين.
مسرحية «جميلة»
من التجارب المسرحية الخارجة عن العلبة الإيطالية لجمال مطر نذكر مسرحية «جميلة» التي عرضها في منطقة الخان في الشارقة في أوائل، أو أواسط تسعينات القرن العشرين، ولهذا العرض قصة صغيرة يرويها جمال مطر في أحد مصادر سيرته الذاتية.. إذ يقول بتصرّف خلال مادة منشورة في كتاب «أول منزل» للشاعر والباحث عياش يحياوي، أن والده وعمّه كانا من الطوّاشين المعروفين، وكان عمّه «خليفة» يجوّد أو يتلو القرآن الكريم بصوته الجميل، وكان أبوه يكتب الشعر، وعاش جدّه من ناحية أمه في البحرين ومات فيها، أما جدّه من أبيه فهو من عائلة السويدي العريقة عاش في منطقة الخان في الشارقة، وربما لهذا السبب دفعه حنين قديم لأن يعرض مسرحية جميلة في منطقة الخان، حيث كان يعيش جدّه الصالح المتديّن.
في الثانية من عمره انتقلت عائلة جمال مطر للعيش في منطقة الحمرية في دبي، لكن الملاحظ هنا أن حياة الطفل جمال مطر قبل بلوغه العاشرة من العمر كانت تراوح بين شجرة الرولة وساحل البحر، حيث منطقة الحمرية، ولا ننسى أيضاً أن ميناء الشارقة ليس بعيداً عن قلب الشارقة، أنه المكان الشعري المائي المحاذي تماماً لقلب المدينة، وفي هذا الأفق الغنائي، الجمالي، الشعري بامتياز تتفتح عينا جمال مطر على الماء، والنوارس، والمراكب، وأصوات البحّارة، وبضائع المراكب.
فضاء العائلة
محظوظ من عاش في مكان شعري غنائي، لأنه سيرث هذه الغنائية مباشرة من المكان، ولكن في الوقت نفسه سيرث الشعر من فضاء العائلة، ومرة ثانية سنعود إلى المتنبي وجمال مطر، فقد كان والده شاعراً، وهو نفسه ذلك الوالد الشاعر مَنْ زرع فتنة المتنبي في قلب الصبي الذي كانه جمال آنذاك.
غير أن جمال مطر كان في قلبه شغف آخر.. إنه المسرح الذي سيدرسه، أكاديمياً ونظرياً وعملياً، قبل أن يتقدم بتجاربه المسرحية – ويطرحها بجرأة ولكن بحذر على الخشبة، وهي بالعشرات، وفي كل هذه الخزانة المسرحية سيكون – انتقائياً تماماً حين يكتب للمسرح، وحين يحوّل النص إلى عرض، وحين يراهن على ممثل، ويعتبره منذ البداية حصانه الرابح.
ربيع الغابة
ربح جمال مطر الشعر أيضاً. كتب قصيدة النثر على رغم تربيته «المتنبوية» التراثية، وأيضاً سيربح الرواية، وستكون روايته «ربيع الغابة» أشبه بمغامرة جريئة في إطار الكتابة على لسان الحيوان أو بقناع الحيوان، ويخوض في تجربة روائية قبل ذلك بعنوان «كلب»، ويبقى في كل أحواله السردية مشدوداً بخيط خفيّ إلى المسرح. إلى حركة النصّ، وإيقاعه، وحواراته، ومونولوجاته، وتداعياته الفكرية والنفسية واللغوية، وهي جميعاً خصائص مسرحية.
كتب جمال مطر المقالة والسيرة أيضاً، وفي أحواله الكتابية هذه لم يطغ شكل أدبي عنده على شكل أدبي آخر. في المسرح له شخصية ثقافية جمالية، وفي الرواية له شخصية ثقافية سردية، وفي الشعر لم يكن المتنبي الشغوف به حدّ الدوخان بطريركاً أو طاغية شعرياً على تجارب يحبّها جمال مطر في الشعر الإماراتي والعربي، فمثلما هو مملوء بالإعجاب للمتنبي هو أيضاً ذوّاقة انتقائي لشعر العمود العربي، وشعر التفعيلة، وشعر قصيدة النثر.
ثنائي وجداني
لا تكتمل، في رأيي، أية صورة قلمية يرسمها كاتب لجمال مطر إلاّ بالإشارة إلى توأم روحه ناجي الحاي. إنه بالنسبة إليه نصف البرتقالة، أو نصف التفاحة، وكذلك جمال مطر بالنسبة لناجي الحاي. ثنائي وجداني رفاقي حياتي بالدرجة الأولى، ولكن في الوقت نفسه هما ثنائي ثقافي. درسا المسرح من الناحية النظرية قبل الإخراج، كتبا للمسرح، أخرجا أعمالاً غامرت وخرجت من العلبة الإيطالية، ورآها الجمهور على الرمل وفي الهواء الطلق، وهما أيضاً، جمال مطر، وناجي الحاي، صورتان متقابلتان دائماً في المشهد العام للمسرح الإماراتي، وحضورهما معاً في التظاهرات الثقافية والمسرحية، مثل أيام الشارقة المسرحية يشكل لحظة تفاؤلية تقول إن الصداقة التي تنتج فناً إنسانياً رفيعاً هي في حدّ ذاتها نبل وجمال.