التخطي إلى المحتوى

يواصل الكوليرا انتشاره الصّامت في المناطق اللبنانية، من عكار إلى عرسال، خصوصاً في البقاع الجغرافية التي تتداخل فيها مجتمعات النزوح والاستضافة؛ فهناك يرتفع عداد الإصابات يوميّاً، وآخرها طفلٌ وفاة طفل لم يتعدَّ الخمسة أشهر من عمره. لكن الخوف الأكبر من المرض يتمثّل في التفشّي المحتمل والسريع، في ظلّ افتقاد الحلول المطروحة إلى التمويل، في مجال تأمين المياه النقيّة، ومعالجة المياه الملوّثة، خصوصاً في شمال لبنان.

 

لم يكن أحدٌ ليسمع صرخات الناس وأوجاعهم لولا “وصول الموس إلى دقون المسؤولين”، والإعلان عن تسجيل حالات الكوليرا التي كانت متوقّعة، وفق ما يؤكّد الخبراء والأطباء.

 

فبعد أن قضى لبنان على المرض في العام 1993، أوجد التلوّث الفاضح، وإهمال المسؤولين واجباتهم الوطنيّة، واختلاط مياه الشرب والخدمة المنزلية بمياه الصرف الصحيّ… والغياب الكليّ لأيّ محطة تكرير في محافظة عكار (أوجد) بيئة “مثالية” لتجديد شباب المرض.

وليس مفاجئاً أيضاً أن تكون الحلول المطروحة “ترقيعيّة”، بالرغم من أننا لا نملك ترف الوقت، ويُخشى أن يصعُب احتواء الوباء حين تفشّيه.

 

في الإطار، اعترف وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس الأبيض بأن “لا وقت لإصلاح شبكات المياه والصرف الصحيّ. لذلك، نوزّع الموادّ المعقّمة للمياه، ونعمل على تأمين اللقاح للكوليرا، ونُجهزّ النظام الصحيّ من الفحوصات وعزل الحالات والرعاية الأوليّة وتحضير المستشفيات”.

 

بالطبع، فالقوى السياسية المشاركة في السلطة، والحكومات المتعاقبة التي كانت تتحدّث عن إنجازات في البنى التحتية، وحتى المؤسسات التنموية، كانت تبيعنا أوهاماً، ولا مَن يحاسبها!

 

بالأمس، سُجّل وقوع 5 إصابات جديدة بالكوليرا، وانضمّت مناطق أخرى إلى لائحة المساحات التي دخل إليها الوباء، فبلغ مجموع الحالات 34 حتى السّاعة. لكن الأطباء والخبراء يتوقّعون ارتفاع عدد الإصابات، ويتخوّفون من الانتشار، لاسيما أنّ الإصابات منتشرة في مناطق مكتظة، حيث الافتقار إلى الحدّ الأدنى من المعايير الصحيّة.

 

 

يبدو لافتاً أيضاً أنّ 38% من الإصابات تعود إلى الفئة العمريّة ما بين 0 و4 سنوات، تليها الفئة العمريّة ما بين 45-65 بنسبة 24 في المئة، ممّا يجعل الفئتين أكثر الفئات الاجتماعيّة هشاشة، وعرضة للإصابة بمضاعفات الجفاف الحادّ.

ويسترعي اهتمام المسؤولين أن الإصابات لم تعد محصورة بمنطقة جغرافية واحدة، وإنما تأتي من قرى وبلدات متباعدة جغرافيّاً، من بينها مخيّمات اللاجئين؛ وهذا الواقع يكشف عن أن المرض يشهد تفشّياً على نطاق واسع.

 

يؤكّد مدير مستشفى الراسي الحكومي الدكتور محمود خضرين لـ”النهار” أن “هناك 20 حالة تُتابع في المستشفى بين مُشتبه فيها ومثبتة، وهي من مختلف الأعمار. لكن حالتين من الحالات موجودتان في العناية الفائقة، فيما الحالات الأخرى أوضاعها مستقرّة، مع تسجيل أن المستشفى وصل إلى قدرته القصوى. لذلك حدّدت وزارة الصحة مستشفى ببنين وطرابلس الحكوميّين لاستقبال الحالات الجديدة”.

 

انضمّت بلدة المحمرة – العبدة إلى قائمة المناطق التي تسلّل إليها #الكوليرا بتسجيل إصابتين حتى السّاعة وفق تقرير وزارة الصحة، ممّا حرّك مشاعر الخوف لدى رئيس البلدية  عبد المنعم عثمان من “غياب أيّ خطة رسميّة وقائيّة للتعامل مع الإصابات على أرض الواقع” وفق ما يقول لـ”النهار”.

 

برأيه أنّ “ما يجري اليوم حديث إعلامي وتنظير، وتفتقد أرض الواقع إلى خطة أو استراتيجيّة واضحة لمعالجة المشكلة. ولم أتبلّغ من أيّ جهة رسميّة معنيّة بأيّ خطّة عمل سيتمّ اعتمادها لمواجهة الكوليرا. وحدها وسائل الإعلام تتابع الموضوع”.

 

 

اللافت حسب عثمان أن “المصابين يستكملون حياتهم بشكل طبيعيّ وعادي من دون أيّ عزل أو إجراءات خاصّة. لا يوجد خطة عمل للتوعية أو لمتابعة المصابين أو توجيههم لمعرفة كيفية التعاطي مع هذا المرض. علماً بأن سكّان المحمرة يبلغون 20 ألف نسمة تقريباً، ناهيك بمخيم نهر البارد الذي يضمّ 40 ألف نسمة تقريباً”.

 

وعن نوعيّة المياه المستهلكة في المنطقة، يشير عثمان إلى أن “الأزمة الاقتصادية دفعت الناس إلى التخلّي عن شراء مياه نظيفة، فاتّجهوا نحو قنوات المياه التي تمرّ بالقرب من سكناهم للتوفير. لكن المشكلة أن هذه القنوات تعاني من مشكلات عديدة، وهناك تعدّيات كثيرة عليها، ممّا يعني أنّها مياه غير آمنة وملوّثة”.

 

يُحذّر عثمان من أن البلد على “كفّ عفريت” صحيّاً، والمؤشرات غير مطمئنة، وما يزيد من هذه المخاوف تطبيق تجربة #كورونا على وباء #الكوليرا. فسياسة النعامة وعدم التهويل قد تؤدّي إلى كارثة وانتشار مخيف. صحيح أن الإصابات ما زالت محدودة، ولكن الانتشار السريع لهذه العدوى يُعيدنا إلى السيناريو السّيّئ مع بداية فيروس #كورونا.

 

يتهيّأ مستشفى رفيق الحريري الحكوميّ لاستقبال مرضى الكوليرا الذين يحتاجون إلى الرعاية الطبية، وسيكون من بين المستشفيات التسعة التي تسعى وزارة الصحة لتجهيزها استعداداً لمواجهة الأعداد الإضافية التي قد يشهدها البلد في الأسابيع المقبلة.

 

يوضح الاختصاصي في الأمراض الجرثومية الدكتور بيار أبي حنا أنه “في البلدان المتقدّمة التي لديها مياه سليمة وصرف صحيّ جيّد لن تُشكّل بعض حالات الكوليرا موضوع قلق وخوف، لأنها قادرة على السيطرة عليها. لكننا في لبنان، وخاصة في مخيمات اللاجئين والأماكن المكتظة سكانيّاً، ومع تخفيض كمية المياه النظيفة التي تصل إلى المنازل من المنظمات الدولية، وغياب محطات التكرير، بات يمكننا الحديث عن تداخل مياه الصرف الصحيّ ومياه الشرب، وبالتالي عودة انتشار وباء الكوليرا”.

 

 

 

وعن الحالات التي تحتاج إلى دخول المستشفى، يؤكّد أبي حنا أن “80 في المئة من حالات الكوليرا تكون من دون عوارض، في حين يعاني البعض من عوارض خفيفة؛ ويعاني 5 في المئة من إسهال حادّ، فيفقد المريض نسبة كبيرة من السوائل، ويصاب بالجفاف الحادّ والخلل في الأعضاء الأساسية للجسم خلال ساعات قليلة، ممّا قد يُسبّب الوفاة. لذلك نطلب من الأشخاص الذين يعانون من إسهال حادّ، وجفاف في الجلد، وعطش كبير… ولديهم مشكلات صحية التوجّه إلى المستشفى وعدم التأخّر في طلب الرعاية الطبية”.

 

يوضح بأن “علاج الكوليرا يكون بإعطاء المصاب كميّة من السوائل التي خسرها في أسرع وقت، عبر أمصال فموية، إذا لم يكن الوضع المرضيّ متقدّماً، بشرط أن تكون بإشراف اختصاصيّ لتحديد الكميّة التي يحتاجها المريض لتعويض هذا النقص. ولكن المريض قد يكون أحياناً عاجزاً عن تناول المصل فموياً، فيتمّ اللجوء إلى إعطائه المصل عبر الوريد”.

 

يشير أبي حنا إلى أن “بعض أنواع المضادات الحيويّة تساعد على التخفيف من العوارض بنسبة 50 في المئة، ونحن في انتظار نتائج الزرع من وزارة الصحة لمعرفة أيّ نوع من المضادّات الحيويّة يمكن استخدامه لمعالجة مرضى الكوليرا”.

 

أما بالنسبة إلى اللقاح الفموي، فيؤكّد أبي حنا أنه “قادر على التخفيف من خطر التقاط العدوى والتقليل من خطر العوارض في حال الإصابة بالمرض. وبالتالي، منافعه كثيرة، ومنها الحدّ من انتشار الوباء؛ لذلك يجب إعطاؤه في الأماكن التي يمكن أن ينتشر فيها #الكوليرا بقوة، وللأشخاص المعرّضين أكثر من غيرهم. ولكن كما قيل نشهد على نقص في لقاح الكوليرا عالمياً، إلا أن وزارة الصحة تسعى إلى تأمين اللقاح الفمويّ الذي قد يساعد في السيطرة على الوباء”.

Scan the code