مارلين سلوم
كلما شاهدت أفلاماً عالمية حديثة، تأكدت أن الصناعة السينمائية صارت أكثر اعتماداً على الفذلكة والفنتازيا والوهم والمبالغة بشكل لامنطقي، ولا يمكن تصديقه بأي شكل في تأليف قصص لا تنتمي إلى عالمنا ولن تنتمي إلى المستقبل، أفلام تَحارُ في أمرها أهي خيال علمي أم قصص جاسوسية أم بوليسية أم جريمة أم كوميديا، أو ربما تصلح لأن تكون «كرتون طفولي ساذج»، وحتى الأطفال الذين عرفوا «هاري بوتر» وسحره والإبداع في التأليف والإخراج فيه، لن يصدقوا هذه النوعية من الأعمال الجديدة والتي تحمل أسماء نجوم كبار، مثل فيلم «القطار السريع» والأفضل أن نسميه باسمه الأجنبي «بوليت تراين» لأنه لا يشبه قطار الكاتبة الكبيرة أجاثا كريستي لا من قريب ولا من بعيد وإن تمحّك به واستعار منه فكرة الجريمة على متن القطار السريع.
على ماذا تعتمد في قرارك مشاهدة «بوليت تراين»؟ على اسم المخرج الأمريكي دايفيد ليتش (أشهر أفلامه جون ويك، فاست أند فوريوس (2019)، أتوميك بلوند، ديدبول2..) أم اسم براد بيت وهو البطل الرئيسي في هذا العمل، وضيفة الشرف ساندرا بولوك؟ أم على تصنيف الفيلم باعتباره «أكشن وكوميديا وجريمة» خصوصاً أن اسمه يوحي بأنه قريب إلى حد ما من «جريمة في قطار الشرق السريع» للكاتبة الرائعة أجاثا كريستي؟ كل ما تراهن عليه لن يفيدك، فالفيلم يأخذك إلى مناطق أخرى، حيث تسقط هالة «الكبار» عنه لتشعر بأنك أمام فيلم كرتوني هزلي، يمكن اختصار قصته بكلمات قليلة، لأنه مبني على فكرة بسيطة تتكرر باستمرار في السينما العالمية، انتقام عصابات، ومجموعة قتلة مأجورين يتم توجيه كل منهم إلى نفس القطار بغرض الحصول على حقيبة ملأى بسبائك الذهب والفلوس، بالإضافة إلى حماية ابن «الموت الأبيض» (مايكل شانون) أو الرجل الروسي الثري صاحب الحقيبة؛ لا أحد منهم يعلم بوجود قتلة آخرين على متن هذا القطار، لذلك يعمل كل منهم على قتل كل من يقف في طريقه بشراسة من أجل تنفيذ المهمة.
كان من الممكن أن نستمتع بهذا الفيلم لو أن مخرجه وكاتبه لم يبالغا في جعل الأكشن والقتال والجريمة مجرد كوميديا تضحكك ولا تؤثر فيك، ولم يستغلا بعض المواقف الكفيلة بجعل الجمهور يتعاطف مع الشخصيات، سواء البطل الأول براد بيت بشخصية العميل الملقب بالدعسوقة «لايدي باج»، أو الأخوين «ماندارين» (آرون تايلور جونسون) و«ليمون» (براين هنري) حيث ينتقلان من المواقف والمقالب الكوميدية إلى المأساوية والتي من المفترض أن تجعلنا نتأثر ونبكي، ولاحقاً شخصية «برنس» (جوي كينج) حين نكتشف أنها تنتقم من والدها بارتكابها مجموعة جرائم وبأسلوب هادئ تخدع فيه كل من تصادفه.
براد بيت عميل مأجور تكلفه ماريا (ساندرا بولوك) التي نسمع صوتها طوال الوقت ولا تظهر إلا في آخر مشهد، بعملية على متن القطار السريع في طوكيو، على طريقة أفلام الجاسوسية الأمريكية، تخبره بالتعليمات وأين يجد مستلزمات إتمام المهمة، التي يأخذ بعضها ويترك المسدس باعتبار أنه يرفض القتال وأن المهمة سهلة وسريعة، سوف يأتي بالحقيبة ويعود أدراجه؛ لكن ما إن يركب القطار ويجد الحقيبة حتى تبدأ المشاكل وتتعرقل المهمة وتظهر شخصيات كثيرة. كل الأحداث والأبطال داخل القطار، والرحلة التي تمتد نحو ساعتين تجذبنا في البداية، ثم تسقط في نفس دوامة المطّ والكلام الكثير بلا فائدة، مع مواصلة تحويل التراجيديا إلى كوميديا حتى النهاية.
تتدفق الشخصيات وكلّ وجه جديد يضاف إلى لائحة القتلة المأجورين أو زعيم عصابة راغب في الانتقام؛ يكثر المخرج من الفلاش باك والعودة بالأحداث إلى الوراء كنوع من التعريف بالشخصيات وعلاقتها ببعض، ما يربك المشاهدين خصوصاً في الجزء الأول من الفيلم. الحضور الياباني واضح، لكن الأحداث وتسلسلها يبتعد عن النمط الياباني، ويلحقه المخرج ليتش بالأسلوب الأمريكي قلباً وقالباً.
تؤدي جوي كينج دوراً مميزاً بشخصية «برنس» وهي بطلة تحرك الأحداث وتفاجئ المشاهدين في النهاية؛ الثنائي براين وآرون متناغمين معاً كشقيقين لكن في دوريهما افتعال للسذاجة يستفز المشاهد أحياناً؛ أداء براد بيت أقوى من الدور المسند إليه وهو مازال يحافظ على لياقته وليونته وخفة ظلّه.
اعتدنا على اللامنطق في أفلام الأكشن، لكن هذا الفيلم يستحق الأوسكار في تركيب المشاهد والصور والجرافيك واستخدام التقنيات الحديثة لتحل محل التصوير الخارجي والحقيقي، عالم افتراضي تحولت فيه كل الشخصيات إلى أبطال خارقين، حتى القطار خارق ولديه «سوبر باور» في السرعة وتجاوز كل المعوقات إلى أن يصل براكبيه إلى مرحلة النهاية؛ هؤلاء الأبطال لا يموتون بسهولة ولا يُقهرون، ورجال «الموت الأبيض» يمشون ويركضون فوق سطح القطار الفائق السرعة بثبات تام وكأنهم يمشون على الأرض!.
هل المشكلة في أن «بوليت تراين» بالأصل هو رواية يابانية كتبها كوتارو إيساكا، والشخصيات كانت كلها يابانية، ثم أعاد كتابة السيناريو زاك أولكيويتز وحوله المخرج المعروف دايفد ليتش إلى فيلم تدور أحداثه في قطار سريع يجوب مختلف أنحاء اليابان، بشخصيات مختلطة الغالبية من اليابان والبقية من أمريكا وشخصية واحدة من روسيا، ورغم ذلك يشعرك بأن الأحداث لا تنتمي إلى زمان ولا مكان محددين؟. هو فيلم أكشن عبثي لا خيال علمي ولا جريمة متقنة ولا جاسوسية احترافية كالأفلام التي تعتبر علامة مميزة في السينما العالمية، إنه أقرب إلى فيلم رسوم متحركة، وكنا سنتقبّله أكثر لو لمسنا فيه سخرية متعمدة من أفلام البطولات الخارقة والأكشن.
[email protected]