في الماضي السحيق، وصف سكان البلدان المطلة على المحيط الأطلسي ذلك المحيط الهادر بـ”بحر الظلمات الذي يُخفي وراءه مياهًا تغلي، تجعل من العبور إليه بوابة دخول إلى المجهول”، لم يكن هذا الاعتقاد –بالرغم من غرابته- إلا فصلًا من فصول البحث عن المعرفة؛ إذ تؤدي قلة الضوء التي تصل إلى المحيط إلى ظهوره بصورة “مظلمة”، وتمنحه كثافة السحب “قتامة” و”عتمة”، وفق العلامة “ابن خلدون”، الذي رحل عن عالمنا قبل 617 عامًا، وتحديدًا في عام 1405.
ربما مهدت “ظلمة وقتامة وعتمة” العلامة “ابن خلدون” الطريق أمام عالِم الفلك المغربي “زهير بن خلدون”، مدير مرصد “أوكايمدن”، الواقع على ارتفاع 2750 مترًا، وتحديدًا فوق قمم جبال الأطلس الكبير، لخلق مساحات أكثر “ضياءً” و”إشراقًا” و”سطوعًا” من خلال محاولاته التي لا تنتهي لرصد حركة النجوم والكواكب في السماء.
يشغل “بن خلدون” العديد من المناصب المرموقة، فهو عضو مؤسس في المجلس العلمي للمبادرة الأفريقية لعلوم الكواكب والفضاء، وعضو في اللجنة التحضيرية للجمعية العامة للاتحاد الفلكي الدولي، الذي سيُعقد في جنوب إفريقيا في كيب تاون في 2024، ويعمل باحثًا علميًّا في مختبر فيزياء الطاقة العالية والفيزياء الفلكية في كلية العلوم السملالية بجامعة القاضي عياض؛ إذ كان أحد مؤسسي هذا المختبر في عام 1999، وأداره لمدة 10 سنوات قبل أن يتولى إدارة مرصد أوكايمدن.
يشغل “بن خلدون” العديد من المناصب المرموقة
مرصد أوكايمدن
تم افتتاح المرصد الفلكي “أوكايمدن”، التابع لجامعة القاضي عياض بمراكش، في عام 2007، ويقع بمنطقة “أوكايمدن” على بُعد 50 مترًا جنوب مدينة “مراكش” المغربية، وحصل على شراكة مع جامعة “لييج” البلجيكية، وكان “نادي فيزياء الطاقات العليا والفيزياء الفلكية” بجامعة القاضي عياض و”جمعية جورا الفلكية” في سويسرا وعالِمة الفلك الفرنسية “كلودين رينر” المعنية باكتشاف الكواكب والمذنبات الصغيرة قد وقَّعوا اتفاقية تعاون لتأسيس “مسح السماء.. أوكايمدن المغرب” من خلال ما يُعرف بـ”تليسكوب موس” في أغسطس عام 2011، ويتمتع “تليسكوب موس” بمجال رؤية كبير، وهو مخصص بشكل أساسي للبحث عن الكواكب الصغيرة الجديدة، ويتم التحكم فيه عن بُعد، ويتم تشغيله من قِبل ثلاثة شركاء في مراكش وفرنسا وسويسرا.
يقول “بن خلدون” في تصريحات لـ”للعلم”: إنشاء مرصد أوكايمدن هو مشروع وُلد داخل المركز الوطني للبحث العلمي والتقني في الرباط، لقد أنشأنا هذه المؤسسة بوصفها أول مختبر أبحاث في الفيزياء الفلكية الحديثة، وكان معي ثلاثة من رفاقي، فرضتْ فكرة إنشاء مرصد فلكي نفسها بالنظر إلى خصائص المراقبة الممتازة التي تتمتع بها المواقع المغربية الواقعة على ارتفاعات جبال الأطلس الكبير، واقترحتُ تطوير موضوع دراسات مواقع المرصد المحتملة من خلال تحليل البيانات المناخية الفلكية للمواقع المغربية، وأثبتت نتائج هذه الدراسات أنها ممتازة، وأثارت اهتمام المجتمع الدولي لعلماء الفلك.
إنجازات كبيرة
يضيف “بن خلدون”: أصبح مرصد أوكايمدن أحد أهم مواقع المراقبة الفلكية في القارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتم تطوير العديد من مهماته مثل دراسة الكواكب الخارجية واكتشافها ودراسة غلافها الجوي، ودراسة النجوم المتغيرة وتطوراتها، ومراقبة الكويكبات والمذنبات، ورصد الشهب وتحديد مساراتها، ودراسة مناخ الفضاء، ورصد الأقمار الصناعية والحطام الفضائي.
تم افتتاح المرصد الفلكي “أوكايمدن”، التابع لجامعة القاضي عياض بمراكش، في عام 2007
كما حقق مرصد “أوكايمدن” العديد من الإنجازات في مجالات تطوير موضوع تأهيل المواقع الفلكية واختراع أدوات جديدة مخصصة لرصد الاضطرابات الجوية لاستنتاج تأثيرها على الملاحظة في علم الفلك، واكتشاف 5 مذنبات جديدة وستة كويكبات قريبة من الأرض، واكتشاف كويكب ثنائي قريب من الأرض، والمشاركة مع وكالة “ناسا” في اكتشاف نظام الكواكب الخارجية TRAPPIST-1، والمشاركة في توصيف مذنب بوريسوف الذي يُعد ثاني جسم تم اكتشافه من خارج نظامنا الشمسي حتى الآن، والمشاركة في مراقبة شفق أشعة جاما.
صعود القمر
يحكي “بن خلدون” رحلته مع علم الفيزياء الفلكية قائلًا: بدأ اهتمامي بعلوم السماء في وقت مبكر جدًّا، تأثرت مثل غيري من الشباب بأسرار الكون وبدايات استكشاف الفضاء وخطوات الإنسان الأولى على القمر، وقتها كنت في العاشرة من عمري، لقد كنت محظوظًا لأنني نشأت في أسرة شغوفة بالمعرفة والعلوم، كانت المطالعة شيئًا طبيعيًّا جدًّا بالنسبة لي ولإخوتي، إن جيل آبائنا هو أيضًا جيل استقلال المغرب، والاستثمار في تدريب الأطفال كان بمنزلة نضال لتأسيس التنمية في البلاد، كان والدي معلمًا، وساعدني ذلك على سهولة الوصول إلى المؤلفات والأعمال الأدبية من مختلِف الأنواع، بما يتضمن تلك الأعمال التي تهتم بالمعرفة العلمية وتاريخ العلوم، كان ابن الهيثم ، وعمر الخيام ، والبيروني ، وابن البنا المرقشي، وفاطمة الفهرية، وغيرهم من الشخصيات الملهمة في ثقافتنا العربية الإسلامية.
ويتابع: ازداد اهتمامي بعلم الفيزياء الفلكية خلال دراستي الجامعية، وكان هناك دور –أيضًا- لعنصر الصدفة، لقد بدأت أولًا بالحصول على درجة الدكتوراة في علم الطاقة بعد موجات الاهتمام بالطاقات المتجددة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وأثبتت المناقشة مع بعض زملائي في الجامعة والرغبة في تطوير الفيزياء الفلكية في المغرب أنها أكثر إثارةً وجاذبيةً بالنسبة لي، لذلك أعددت الدكتوراة الثانية في الفيزياء الفلكية بعد حصولي على درجة الدكتوراة الأولى في علم الطاقة.
نقل الخبرات
ربما كانت روح الأسرة دافعًا قويًّا لـ”بن خلدون” في اعتياده نقل المعرفة إلى غيره؛ إذ شارك في تأسيس جمعية الفلكيين الهواة بمراكش، التي يقول عنها: كان الاهتمام بالبحث العلمي في الفيزياء الفلكية شبه منعدم في المغرب في بداية مغامرتنا في هذا المجال، حتى بين المسؤولين عن السياسة العلمية في ذلك الوقت، وفي المقابل، كان هناك حماس من الجمهور للتعرف على علم الفلك، لذلك قررنا الاستثمار في الترويج العلمي لجذب الشباب إلى هذا التخصص، وإنشاء “كتلة حرجة” للتأثير على علم الفلك الاحترافي، كان تأسيس جمعية الفلكيين الهواة بمراكش محاكيًا للنسيج الجمعوي المغربي في علم الفلك، واليوم لدينا ما يقرب من 100 جمعية ونادي للفلكين الهواة، وبعضها نشطٌ للغاية.
الصعيد الرسمي
يرى “بن خلدون” أن صانعي السياسات العلمية في عالمنا العربي يجب أن يدركوا قيمة الاستثمار في العلوم والثقافة بجميع أشكالها.
ويقول: لقد حققت البلدان التي أدركت ذلك تقدمًا هائلًا مع تداعيات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وتكمن المشكلة في أنه في الوقت الذي لا تتوقف فيه الدول المتقدمة عن دعم مشروعات تلسكوب جيمس ويب الفضائي، ومشروعات مسرِّعات الجسيمات الضخمة، نواصل بمنطقتنا تقسيم البحث العلمي والتحدث عن البحث “التطبيقي” في مقابل البحث الأساسي أو النظري، ونرجح كفة ما يسمى بالبحث في المجال “التطبيقي”، وهو ما يعكس جزءًا من خطأ السياسات التي نتَّبعها، ومن جانبنا، أنشأنا في عام 2016 الجمعية الفلكية العربية التي أشرف برئاستها حاليًّا، والتي يتمثل اهتمامها الرئيسي في تسهيل الوصول إلى الأبحاث في علم الفلك للباحثين الشباب من الدول العربية، لهذا نعمل على مضاعفة تنظيم ما يُعرف بالمدارس الموسمية في الفيزياء الفلكية، وخلال 6 سنوات نظمنا سبع دورات، اثنتان منها في المغرب وثلاث في مصر، ودورة واحدة في كلٍّ من لبنان وقطر.
نمو مستدام
يقول “بن خلدون” في مقال نشرته دورية “نيتشر أسترونومي” (Nature Astronomy): “إن الإنتاج العلمي المغربي في علم الفلك والفيزياء الفلكية أظهر نموًّا مستدامًا منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، ويرجع هذا النمو بشكل كبير إلى ديناميكية مجموعة من الباحثين المغاربة من جهة وإلى إنشاء مرصد فلكي في جبال أطلس المغربية من جهة أخرى”، في إشارة إلى المرصد الفلكي “أوكايمدن”.
ويتابع: شهد تطور علم الفلك في المغرب زيادةً كبيرةً في السنوات الأخيرة مقارنةً بمجالات البحث العلمي الأخرى في المغرب ومقارنةً بالدول الأخرى في المنطقة بشكل عام، وسلط مرصد “أوكايمدن” الضوء على أنشطة الفيزياء الفلكية في المغرب بفضل المسح “السويسري -الفرنسي- المغربي” للمغرب بواسطة “تليسكوب موس”، الذي أصبح أحد أكثر التلسكوبات غزارةً في العالم من حيث اكتشافات الأجسام الصغيرة في النظام الشمسي، ويعود نجاح هذا المرصد إلى عام 1986 عندما قرر العديد من علماء الفلك المغاربة تشكيل مجموعة بحثية في المركز الوطني للبحث العلمي في الرباط يتركز دورها بشكل أساسي على تطوير مرصد فلكي للمغرب باعتباره أداةً لتطوير أبحاث علم الفلك والعلوم بشكل عام.
انتهت كلمات “بن خلدون”، وكأنه يردد مع الروائي الراحل “جابرييل جارسيا ماركيز” الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1982 قوله: تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سر السعادة يكمن في تسلُّقه.