للكواكب عند العشاق العرب سحرٌ وخيالٌ وجنون، ولحركات الكواكب وأحجامها وأبعادها عند علمائهم أسرارٌ نجحوا قديمًا في فك طلاسمها، حتى باتت أسماء مثل “ابن الهيثم” و”الخوارزمي” جزءًا لا يتجزأ من “تأريخ” الكون، في حين تحولت جلسات “ابن رشد” لتصفُّح السماء إلى حلقات دراسية يجتمع فيها طلابه ومريدوه بمدينة “مراكش” المغربية لمعرفة أسرار “السماء في وقت الظلام”؛ إذ قدم “ابن رشد” للعالم وللغرب ما يمكن وصفه بـ”أول التفسيرات البدائية والقريبة علميًّا لأشكال البقع الشمسية”.
كانت “مراكش” المغربية هي ساحة انطلاق “ابن رشد”، الذي غادر عالمنا قبل 824 عامًا في وقت كانت أوروبا فيه لا تزال تُراوح مكانها بحثًا عن “خلاص” من “عصور الظلام”، حلم “ابن رشد”، وهو يشاهد حرق كتبه في قلب الأندلس، بأن تستمر رحلته “العلمية”، واختار من بين تلاميذه مَن يحمل -على ظهره- نسخًا من كتبه بحثًا عن أماكن آمنة –من بينها مصر- تجنِّبها نيران الجهل وظُلمة التخلُّف، مؤمنًا بأن “للأفكار أجنحة لا يمكن لأي أحد أن يمنعها من الوصول إلى الناس”.
واقع يُحاكي الخيال
تشعبت أحلام “ابن رشد” وامتدت ضاربةً في أرض “مراكش”، لكنها لم تبلغ آنذاك مجرد التفكير في أن يأتي يوم تُلقَّب فيه الكويكبات باسم عالِمة عربية من بلده التي طالما اعتُقد قديمًا أنها “موقع غروب الشمس”، وهو الأمر الذي أصبح واقعًا بفضل حسناء الشناوي أوجهان، العالِمة المغربية المتخصصة في مجال النيازك وعلوم الكواكب والجيوكيمياء، وأستاذ الجيولوجيا في كلية العلوم عين الشق، وهي إحدى أهم المؤسسات الجامعية المغربية التابعة لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، والتي كانت أول امرأة تحمل درجة الدكتوراة في علم النيازك في المغرب والدول العربية؛ إذ حصلت على الدكتوراة الأولى من جامعة بيير وماري كوري (جامعة باريس 6) في فرنسا في جيوكيمياء الغازات النادرة عام 1992.
تحكي “حسناء” قصة إطلاق اسمها على كويكب في تصريحات لـ”للعلم” قائلة: أنا فخورة جدًّا بتسمية هذا الكويكب باسم عائلتي (كويكب الشناوي)، إنه تقديرٌ للجهود التي أبذلها للترويج لعلوم النيازك والكواكب في المغرب والدول العربية والأفريقية، مكتشف هذا الكويكب هو عالِم الفلك الفرنسي “ميشيل أوري”، الذي أراد أن يكرِّمني بإطلاق اسمي على الكويكب الذي اكتشفه.
استهدفت “حسناء” إطلاق أسماء أماكن مغربية على جميع النيازك التي لوحظ وقوعها في المغرب
ما فعله العالِم الفرنسي ربما بدا متواضعًا أمام جهود “حسناء”، التي أدخلت دراسة النيازك والفوهات النيزكية إلى المغرب والدول العربية، وصممت وحدةً لدراسة الكيمياء الجيولوجية وكيمياء الكون في المغرب، كما نالت عضوية “الهيئة العالمية لتسمية النيازك” لثلاث ولايات آخرها في يناير 2015 ضمن لجنة تضم 12 خبيرًا دوليًّا، وشاركت في تأسيس مبادرة لترويج علوم الكواكب والنيازك في إفريقيا؛ لنقل التجربة المغربية في هذا المجال إلى جميع بلدان القارة السمراء، فضلًا عن جهودها من أجل إطلاق أسماء أماكن مغربية على جميع النيازك التي لوحظ سقوطها في المغرب.
تقول “حسناء”: يُعَدُّ المغرب بمنزلة خزان للنيازك، وكان هدفي من إطلاق أسماء أماكن مغربية على جميع النيازك التي لوحظ وقوعها في المغرب إعطاء هوية مغربية لهذه الصخور الاستثنائية؛ إذ يتم استخدامها في الأعمال البحثية في جميع أنحاء العالم، ولكن في الغالب يتم تسميتها بأسماء تشير إلى شمال غرب إفريقيا متبوعًا برقم، لم تعجبني هذه التسميات التي تمحو أصل الصخور، لذلك ناضلت منذ عام 2000 لكي يتم تسجيل كل نيزك يُعثر عليه في المغرب باسم مغربي نسبةً إلى المنطقة التي وُجد فيها.
لم يكن اهتمام “حسناء” بعلم النيازك صدفةً بسبب دراسة علم الجيولوجيا؛ إذ بدأ اهتمامها بالأحجار النيزكية في عام 2000.
تقول “حسناء”: اقترح عليَّ أستاذي ألبرت جامبوم في باريس العمل على الصخور التي بدأ جمع العديد منها في الصحراء المغربية، كانت لديَّ الخبرة الأساسية في علم المعادن والصخور، وكان عليَّ أن أكمل هذه المعرفة من خلال معلومات الكيمياء الكونية، وهو علمٌ يعتمد على دراسة العناصر والمركبات الكيميائية والفلزات ومجمل العمليات الكيميائية التي تؤدي إلى تشكُّل الأجسام الكونية المختلفة، واستغرق الأمر مني 6 سنوات لإعداد هذه الدكتوراة واكتساب الخبرة اللازمة في هذا المجال.
وتتابع: تلقيت دعمًا كبيرًا من عائلتي التي أدت دورًا بارزًا في تشكيل شخصيتي وحياتي المهنية؛ إذ لم يمنعني والداي من اختيار عمل “ذكوري” مثل الجيولوجيا، خاصةً في بلد مسلم محافظ، كانوا يثقون باختياري ودعموا هذا الاختيار بشدة، لم أكن أعرف شيئًا عن الجيولوجيا عندما كنت صغيرةً وأردت أن أصبح مدرسةً أو طبيبة، أحببت قراءة القصص وليس الكتب العلمية، لقد ألهمتني أمي التي كانت آنذاك مديرة مدرسة ابتدائية، كان لدى والدتي سيارة خاصة، وكانت تقودها بنفسها، كان مثل ذلك الأمر غير عادي حقًّا في المغرب في الستينيات، وهناك أيضًا دورٌ مهم أدَّاه زوجي وأولادي في مسيرتي المهنية، فهم داعمون لي للغاية ويتفهمون الوقت والطاقة التي يحتاج إليهما عملي البحثي.
أطلق عالِم الفلك الفرنسي ميشيل أوري اسم “كويكب الشناوي” على كويكب اكتشفه تكريما لـ”حسناء”
لم يكن دعم عائلة “حسناء” لها سوى خطوةٍ على طريق نجاحٍ كان من ثمراته حصولها على جائزة “هيباتيا الدولية” لعام 2021، وهي الجائزة التي تعبر “حسناء” عن فخرها بالحصول عليها، مضيفةً: الحصول على تلك الجائزة لا يخصني وحدي، ولكنه يخص كل الباحثين المغاربة، وخاصةً النساء اللواتي قد يؤدين عملًا جيدًا بتمويل محدود.
وردًّا على سؤال لمجلة “للعلم” حول تقييمها للدور الذي تؤديه المرأة العربية في مجال العلوم، تقول “حسناء”: هناك عدد كبير من الباحثات العربيات المعترَف بهن في جميع أنحاء العالم، وهن يعطين نظرةً إيجابيةً عن بلدانهن، ويمكن أن يشجعن النساء في بلداننا العربية -وخاصةً الفتيات- على اختيار تكوينهن العلمي وتشكيله، لكننا ما زلنا نحتاج إلى مزيدٍ من العلماء في الدول العربية ومزيدٍ من النساء في مجالات العلوم المختلفة.
وتضيف: من الناحية الرسمية والحكومية، ينبغي مساعدة صغيرات السن من العالِمات العربيات على تطوير أدائهن بما يضمن حصولهن على مكانة بارزة في مجالات العلوم المختلفة على المستوى العالمي والدولي، ويجب أن نوفر مزيدًا من الفرص للباحثين الشباب من النساء والرجال لتحسين قدراتهم البحثية من خلال الحصول على مزيد من التمويل وأن نتيح لهم مزيدًا من فرص التنقُّل في البلدان الغربية لاكتساب الخبرات وسهولة الحصول على الدعم التقني، ومن المهم أيضًا أن تكون لدى هؤلاء الباحثين خبرةٌ حول آليات عمل المعامل في البلدان الغربية، وهو ما نحاول عمله من خلال مؤسسة “الطارق للأرصاد الجوية وعلوم الكواكب”، وهي مؤسسة غير حكومية أنشأناها في إبريل من عام 2019.
تسعى “حسناء” لتزويد الباحثين العرب بالخبرة من خلال مؤسسة “الطارق للأرصاد الجوية وعلوم الكواكب”
وتؤكد “حسناء” في تقرير نشرته دورية “نيتشر” أهمية تطوير الشراكات بين المؤسسات العلمية في الدول الأفريقية بعضها وبعض، مؤكدةً أن “التعاون داخل القارة الأفريقية نادر، على الرغم من وجود مبادرات لخلق مزيد من فرص التعاون والشراكة بين الدول الأفريقية بعضها وبعض”.
انتهت كلمات “حسناء” تاركةً وراءها صدى عبارة “شكسبير” في رائعته الشهيرة “هاملت”: هناك أشياء كثيرة يا هوراشيو بين السماء والأرض تفوق حلم فلسفتك.