التخطي إلى المحتوى

يوسف أبولوز

في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.

إلى وقت طويل قبل أن يَصْلَبّْ عود هاشم المعلم كان يعتقد أن الموت لصّ كبير ولا يمكن للشرطة أن تقبض عليه، ولكن ما هذا الخيال الشعري المبكر لطفل عمره سبع سنوات؟ وراء ذلك حكاية يسردها هاشم المعلم للشاعر والصحفي الراحل عيّاش يحياوي، ففي تلك السن الطفولية توفي شقيق هاشم الذي كان يصغره بعام واحد وذلك حين دهمته سيارة، فوضع السائق شقيق هاشم في حِجْره وانطلق به إلى المستشفى لكنه توفي جرّاء الحادث، ولم يكن هاشم يعرف ما هو الموت، لكنه تخيّله لصاً كبيراً لا تستطيع الشرطة القبض عليه، ولكي يذهب هاشم وراء خياله المبكر هذا قام بتقشير حبة برتقال ووضعها قرب شجرة سدر ليأتي شقيقه ويأكلها في الليل.

كل طفولة هاشم المعلم التي بدأت في حيّ البطينة في الشارقة منذ ولادته في ذلك الحيّ في العام 1970.. هي طفولة شعرية بامتياز. يقول مثلاً إن البطينة كانت معروفة برملها الأبيض، الأمر الذي كان يغريه لالتهام ذلك الرمل كأنه سكّر، أما حينما كبر بعض السنوات وأصبح فتىً، فكانت حياته مشبّعة بروائح وألوان وأصوات سوقين في الشارقة:.. سوق المجرّة وسوق السمك، وما من شاعر وُلِدَ أو عاش قريباً من بحر وأسواق وأصوات وألوان إلاّ وكان شعره شعر حياة.

حياة أولى

الموت الذي هو اللصّ الأكبر في نظر ذلك الفتى، والمكان الشاطئ «السمكي»، وبيت الطفولة الأول الذي كان يخططه والده ويشيّده من سعف النخيل في أماكن عديدة: البطينة، حيّ الشرق، الليّة القريبة من البحر، كل هذه الأماكن والتنقّلات هي ذاتها الحياة الشعرية الأولى التي وُلِدَتْ من رحمها قصيدة هاشم المعلم في أوائل تسعينات القرن العشرين، فهو ثالث اثنين في القصيدة الإماراتية الجديدة، وتحديداً قصيدة النثر: أحمد العسم، وعبد الله السبب، وسوف ينجم عن هذه الشراكة الشعرية الثلاثية مجموعة شعرية مشتركة بعنوان «مشهد في رئتي»، غير أن لا شراكات دائمة في الأدب، فسوف تظهر الاختلافات والاستقلاليات الإبداعية لكل شاعر على حدة، ويكتب بعد ذلك هاشم المعلم قصيدته بقصبته هو، مغنياً حرّاً في الحالة الشعرية الإماراتية الجديدة.

ظهر هاشم المعلم في مرحلة ثقافية عرفنا خلالها في الإمارات ظهور جماعات شعرية مثل جماعة النورس على سبيل المثال لا الحصر، لكن هذه الجماعات الأدبية لم تشكل ظاهرة أدبية في الإمارات، بل كانت حالة عابرة بكل معنى المعنى، ومن أسباب ظهور واختفاء تلك الحالات يشار إلى طبيعة الأسماء الشابة التي ظهرت آنذاك، واتخذت لها منصّات جماعية أو جماعات شعرية، ربما خوفاً من عدم تقبل الصحافة الثقافية آنذاك القصيدة الجديدة التي يكتبها هؤلاء الشعراء الجدد (آنذاك) ويمكن الإشارة إلى أسماء بعينها: مسعود أمر الله، إبراهيم الملّا، عبد الله عبد الوهاب، الهنوف محمد، وسوف يظهر جيل شعري آخر بعد هؤلاء ولكن بلا «منصّات جماعية» أو «جماعات» مثل: جمال علي، وأحمد المطروشي وغيرهما من الجنسين، ولكن، دائماً يجمع بين هؤلاء الأسماء الشعرية الإماراتية مزاج ثقافي إبداعي واحد يبدون فيه معاً «كتلة» شعرية إماراتية لها خصائص فنية وأسلوبية تحتاج إلى قراءة نقدية متخصصة.

عزلة

في هذا الأفق الشعري الإماراتي ظهر وتكرّس اسم هاشم المعلم، فأصدر: «عين على الرمل»، و«المدفون في الهواء»، وهو – اسم حاضر دائماً في الشعرية الإماراتية، وعلى عادة الكثير ممّن هم من طينة المعلم، فإنه ينأى عن الإعلام، ولا يتملّق ناقداً أو كاتباً «منفوخاً» بالنظريات والمصطلحات الشعرية الجديدة، بل، يكتب قصيدته في معزل حتى عن أي أثر لأساتذة و«ديوك» قصيدة النثر العربية، وهؤلاء هم أتباع ومريدون ومنتَمون، غير أن المعلم لا ينتمي إلاّ إلى روحه الشعرية المصفّاة من أي تاريخ آخر غير تاريخه الشخصي هو بدءاً من «الفريج» أو «الفرجان» الشارقية الأولى- وحتى تكوينه الأدبي المكتمل الآن بأكثر من ثقافة إنسانية كونية.

من أصدقاء هاشم المعلم الذين اختطفهم الموت قرينه الشاعر الراحل علي العندل، وجمعة الفيروز، وغيرهما ممّن كانوا أسباباً للفرح الصغير في حياته الشعرية والشخصية، غير أن فكرة الموت في شعر المعلم لا تأتي بوصفها رثاءً نهائياً للإنسان وللوجود، بل هي أيضاً فكرة الحياة. فكرة الأشياء البسيطة اليومية، والمهملة والهامشية حين تتحوّل في الشعر إلى كائنات وأحياء، وقد نزع هاشم المعلم عنها صفة الجمودية واليباس وحوّلها إلى هواء وماء.

ميزان

أبعد ما يكون هاشم المعلم عن المجّانية والتسرّع في الكتابة. شاعر قصيدة اللحظة والهمس والتأمّل. وهو قال ذات مرة إن قصيدة واحدة جيّدة تكفي وتزيد في ميزان الكتابة الذي يؤمن به، لا تهمّه المطوّلات ولا التراجيديات التي تبدو مهزوزة أحياناً أمام قصيدة قلب صغيرة، وهو كما لو أنه شاعر الكلمات الممحوّة أو الكلمات التي تتألف من ذرّات رملية بيضاء مثل ذلك السكّر الذي كان يلتهمه في «فريج» الطفولة.

نعم.. الطفولة، ربما تلخّص هذه الكلمة البيضاء الطبيعة العامّة لشعر هاشم المعلم. إنه ليس شعراً سردياً حكائياً مشحوناً بالبلاغة ذات الرسم الكامل أو الثقيل. بل هو شعر الطفل أو شعر ذلك الصبي الذي قشّر حبة البرتقال لكي لا يجوع شقيقه – الميّت.

عد إلى روح هاشم المعلم أو عد إلى بيئته تلك، أو اسأله عن نفسه بكل بساطة، تعرف حينها إنسانية الشعر ومذاقه.. الذي يشبه مذاق برتقالة مقشّرة.

Scan the code