“لو أعطيتني تلسكوبًا، فبمقدوري التوصل إلى شيءٍ مُفيد أفعله به”، هذا ما تقوله جين ريجبي، اختصاصية الفيزياء الفلكية لدى مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة «ناسا»، تَشغل ريجبي منصب عالِمة مشروع «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» لشؤون العمليات، وهو مرصدٌ تابعٌ لوكالة «ناسا» تبلغ تكلفته 10 مليارات دولار أمريكي، يُعد هذا المرصد الأكبر والأقوى الذي أنشأته البشرية خارج كوكب الأرض إلى الآن، وعلى مدار مسيرتها المهنية، استخدمت ريجبي العديد من أفضل المنشآت الفلكية الأرضية والفضائية في العالم، وهي الآن تُشرف على إحدى حملات «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» المتعددة، والتي تُوصف بحملات “علم الإصدار المُبكِّر”، وتُموَّل بهدف إجراء عمليات الرصد في المراحل الأولية للتشغيل خلال العام الأول عن طريق الاستعانة بذلك التلسكوب في دراسة تكوُّن النجوم في المجرات على امتداد حِقَبٍ من الزمن الكوني، لكن مهمتها الأساسية مع «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» تتمثَّل في العمل مع فريقها على ضمان أن يحقق أي شخص تتسنى له فرصة استخدامه “شيئًا نافعًا”، من خلال الاهتمام بمختلِف الاستقصاءات العلمية التي من المُزمَع أن يُجريَها التلسكوب لصالح باحثين من مختلِف أنحاء العالم خلال مهمته الأولية الممتدة خمس سنوات وفق الخطة الموضوعة، ولكن ليست هذه مهمةً بسيطة؛ فكل لحظة -بلا مبالغة- من وقت «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية لأولئك الذي يأملون تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب العلمية من هذا المرصد الفريد من نوعه، وريجبي هي التي تتولى الإشراف على جدوله الزمني.
منذ انطلاق «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» في يوم عيد الميلاد عام 2021، تعمل ريجبي جاهدةً بالتعاون مع زملائها على إعداد المرصد لتحقيق كشوفٍ خارقة عن المجرات الأولى، والكواكب القريبة الواقعة خارج مجموعتنا الشمسية، وكثيرٍ من الأشياء الأخرى، والآن، بعد أن أصبحت مرايا هذا التلسكوب وأدواته جاهزةً للعمل، وبعد أن أُعدت مجموعةٌ استهلاليةٌ من الصور والبيانات العلمية من أجل طرحها قريبًا، أضحت دراساتُ «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» الثورية على أُهْبة الاستعداد للبدء في العمل، وفي هذا الصدد، أجرت دورية «ساينتفك أمريكان» scientific American حوارًا مع السيدة ريجبي بخصوص العمل الجماعي الذي يتطلَّبه تشغيلُ هذا المرصد، والعمر الافتراضي غير المؤكَّد له، والمهمَّة الحسَّاسة المُتمثِّلة في تحقيق أكبر العوائد من استثمارٍ قدره 10 مليارات دولار أمريكي في أكبر تلسكوبٍ شهده الكون وأفضله.
[فيما يلي نصٌّ مُحرَّر للحوار.]
تبدو الأمور على ما يُرام فيما يخص «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»، أليست كذلك؟ فنحن على وشك مطالعة أولى الصور العلمية التي رصدها التلسكوب، كما أن أداءه فاق التوقعات في أثناء تشغيله التجريبي، هذا فضلًا عن أن رحلته إلى الفضاء السحيق أبقت فائضًا من الداسر الذي يزوده بالقوة الدافعة الكافية للاستمرار في عملياته وصولًا إلى أربعينيات هذا القرن، بعد انقضاء سنواتٍ عديدة من العمر “الاسمي” لمهمته، ما أروعها من فكرةٍ أننا قد نحظى بالكثير من الوقت “الإضافي” في استخدام هذا الشيء الذي تطلّب عقودًا من العمل المثابر الدؤوب وإنفاق 10 مليارات دولار أمريكي، ذلك المرصد المذهل الذي ربما يُعَدُّ من بعض النواحي أكبر استثمارٍ حدث على الإطلاق في مجال الفيزياء الفلكية، وقد أردت أن أحاوركِ لمعرفة الكيفية التي يُوفِّر بها المشروع الحماية اللازمة لهذا الاستثمار، وكيف ستتحقق المكاسبُ العلمية القصوى باستخدامه؟
أجل، الأمور تبدو مُبشِّرةً للغاية، لقد وُعدنا بأن هذا التلسكوب سيكون على مستوىً عالٍ من الجودة، لكن تبيَّن لنا أنه أفضل مما وُعدنا به بكثيرٍ، ويسرُّني أن أتحدَّث عن الإنجاز الذي تحقق من جميع جوانبه، وكحال كل أعضاء الفريق الآخرين، أجد نفسي متشوِّقةً للكشف عن الصور العلمية الأولى التي رصدها هذا التلسكوب؛ فهذه ستكون المرة الأولى التي نقدِّم فيها جانبًا من هذا الإنجاز، وسيحكم الجميع بأنفسهم على مدى روعته، يمكننا تشبيه هذا الإنجاز بالعصير، ما دُمنا لا نتحدَّث عن المُنشِّطات.
مهلًا.. ألا يمكن وصف «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» بأنه مثل «تلسكوب هابل» عند تناوله “مُنشِّطات”؟ آسفٌ، تلك دُعابةٌ سخيفةٌ مني.
في الواقع، سيتطلب الأمر الكثير من المُنشِّطات، إذ إن «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» أقوى مئات المرات من المراصد الحالية.
حسنًا، بصفتكِ عالِمة مشروع «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» لشؤون العمليات، هل يعني ذلك أنك تصنعين كل «العصير» بنفسك؟
في الواقع، إحدى المسؤوليات التي يضطلع بها علماء المشروعات هي أنهم يُمثِّلون ضمير العلم، صحيحٌ أن التلسكوب في معظمه من صنع مهندسين ومديرين، ولكن كان لا بد من إطْلاع العلماء أيضًا على ما يجري لضمان أداء هذا التلسكوب الدور العلمي المنوط به، وبما أنني عالِمة المشروع لشؤون العمليات، فهذا يقتضي مني الاهتمام بالكيفية التي سنستخدم بها التلسكوب بجميع تفاصيلها، ابتداءً من الاختيار من عمليات الرصد المقترحة، وصولًا إلى وضع الجداول الزمنية للرصد، ومن تشغيل التلسكوب وصولًا إلى إيصال البيانات إلى الأرض وإزالة آثار الأدوات، بعبارةٍ أخرى، أنا معنيةٌ بكل ما يتطلبه إنجاز العمل العلمي.
حسنًا، يمكننا إذًا القول، من أجل مزيدٍ من الوضوح، إنه رغم كونكِ عالمة المشروع لشؤون العمليات، فإن ذلك يعني أنكِ تختارين الهدف الذي يرصده هذا التلسكوب أو الأشخاص الذين يتسنى لهم فرصة استخدامه.
لا مجال للمحسوبية بيننا؛ فمعظم وقت هذا التلسكوب يُخصَّص وفق عمليةٍ شديدة التنافس من مراجعة الأقران، فعلى سبيل المثال، استعنَّا في برامج “الدورة الأولى المُخصَّصة لعموم الراصدين” بلجنةٍ مؤلفةٍ من 200 خبير -يعملون جميعًا عن بُعد بسبب جائحة «كوفيد-19»- من أجل مراجعة ما يزيد على ألف مُقترحٍ من مختلِف أنحاء العالم وترتيبها من حيث الأهمية، وقد اختير رُبع المقترحات بناءً على أفضلها، وتُجرى المهمةُ بإخفاء هوية المعنيين من الجانبين؛ فالمراجعون لا يعرفون مَنْ كتب المقترحات، وأصحاب المقترحات لا يعرفون بالمقابل القائمين على مراجعتها، فهدفنا هو الحكم على الأفكار بناءً على جودتها، ويعني هذا -على سبيل المثال- أنه بمقدور شخصٍ من خارج الوسط الأكاديمي كان قد علَّم نفسه بنفسه أن يحظى ببعض الوقت على هذا التلسكوب، فربما تعيش في دولةٍ لا تحب دولتنا بالضرورة، أو لم يكن لها أي إسهامٍ في بناء التلسكوب، لكنك تحظى في معظم الأحيان بفرصة استخدامه، أليس هذا صحيحًا؟ إنها منافسةٌ مفتوحة؛ لأن هدفنا هو العثور على أكثر الأفكار تميُّزًا.
ولكن كيف تستطعين التعامل مع كل هذه الأفكار “المتميزة” لتحديد أيها أحقُّ بالأولوية؟ تلك مهمةٌ صعبةٌ فيما يبدو.
سيكون جوابي أشبه بشرح الفرق بين صنع عصَّارة فواكه واستعمال العصَّارة فعليًّا في صنع العصير، ومعاينة مواضع الخلل وإصلاحها.
لنتفق أولًا على بعض الأساسيات: يستطيع «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» أن ينظر في أي اتجاه ضمن ثلث السماء في أي يومٍ من أيام العام، وهذا القيد يضمن توجيه الدرع الشمسي باستمرار على نحوٍ يُمكِّنه من حجب الضوء القادم من الأرض والشمس والقمر، ويتحرك مجال الرصد هذا حركةً دائريةً متأرجحة (وهو ما يُعرف بالمبادرة) بحيث يمكن للتلسكوب أن يرى السماء بكاملها على مدار العام، وانطلاقًا من ذلك نستطيع حسابيًّا معرفة ما هي أيام العام التي يستطيع فيها التلسكوب رصد هدفٍ ثابت (أي هدفٍ لا يتحرك في مدارٍ حول المجموعة الشمسية) وكم عدد تلك الأيام؛ فالأهداف الواقعة في مستوى مجموعتنا الشمسية تكون متاحةً قرابة 60 يومًا في السنة، أما الأهداف الواقعة خارج هذا المستوى (أي تقع مباشرةً باتجاه أحد قطبي مجموعتنا الشمسية الشمالي أو الجنوبي) فتكون متاحةً على مدار العام، وبالنسبة للأهداف الواقعة ضمن خطوط عرضٍ مدارية وسيطة مرتبطة بالمسار الشمسي، فتقع بين هذين الحدين.
ثمة أوقاتٌ معينة يجب فيها رصد بعض الأهداف، مثل رصد بعض الكواكب الواقعة خارج مجموعتنا الشمسية عندما تكون عند نقاط محددة في مدارها حول نجومها، أو رصد نجمٍ منفجر، أو رصد ظاهرةٍ كونيةٍ أخرى مرتبطة بالوقت.
بعد ذلك تأتي مسألةٌ أخرى تتعلق بمدى ظلمة السماء؛ فبالنسبة لبعض الأهداف والأطوال الموجية، ثمة فارقٌ كبير بين النظر عبر غبارٍ ساخن باتجاه الشمس والنظر عبر غبارٍ أقل سخونةً باتجاه مكانٍ أبعد ضمن المجموعة الشمسية، وهكذا فإنه فيما يتعلق بهدفٍ معين، تتفاوت درجةُ ظلمة السماء المطلوبة لرصد هذا الهدف موسميًّا، أما فيما يخص بعض عمليات الرصد، فدرجةُ الظلمة لا تعنينا في الواقع، ولكن عندما ننظر إلى أشياءٍ لا تكاد تُرى، سنصبح عندها بحاجةٍ إلى تحديد موعدٍ تكون فيه ظلمة الخلفية السماوية أشدَّ ما يمكن.
كما أننا لا نريد أن يكون «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» بلا عمل، ونريد أيضًا أن تُرسَل البياناتُ إلى الأرض، فنتحدث إلى الأرض نحو ثلث الوقت خلال العمليات العلمية الاعتيادية، مستخدمين هوائيًّا مجهّزًا ذا محورين يمكننا توجيهه في أثناء الرصد، ومعدل انتقال البيانات ليس سيئًا؛ إذ يُقارب 30 ميجابت في الثانية، لكنه أبطأ من مودم سلكي، كما توجد أيضًا ذاكرةٌ 57 ميجا بيكسل ضمن أدوات التلسكوب، ونُعالج هذا الأمر بأن نطلب من مستخدمي التلسكوب ألا يكونوا نَهِمين في استهلاك البيانات، كما أننا نُجري الكثير من عمليات ضغط البيانات.
ونُقرِّر الجدول الزمني للتلسكوب عن طريق اتخاذ أفضل الإجراءات الممكنة للتعامل مع كل تلك القيود من أجل التوصُّل إلى مجموعةٍ من الحلول المقبولة، ونضع خطةً بعيدة المدى نُحدِّد فيها لكل عمليةٍ من عمليات الرصد حيزًا زمنيًّا، قد يمتد شهرًا، يُرجَّح أن تُجرَى فيه العملية، بعدها، نُحدِّد كل 7 أيام أو 10 جدولًا زمنيًّا مفصّلًا لذلك الأسبوع، الأمر أشبه بتحديد ترتيب اللاعبين الذي يضربون الكرة بالعصا في لعبة البيسبول، إنْ جاز التعبير، وقد استلهمنا هذا النهج مع شيءٍ من التعديل من تعامُلنا السابق مع «تلسكوب هابل»، الذي يحكم أداءه أيضًا قيودٌ عديدة، مع الأخذ في الاعتبار أن قيود «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» تختلف كثيرًا عن قيود «تلسكوب هابل».
هل لنا ببعض الأمثلة؟
أولًا، فيما يخص «تلسكوب هابل»، تعترض الأرض طريقه نصف الوقت، ويستغل هذا التلسكوب ذلك الوقت في الدوران باتجاه الهدف التالي، أو التهيؤ لهذا الدوران، بالمقابل، نجد «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» لا يعاني تلك المشكلة؛ إذ هو في الفضاء السحيق، ما يعني أنه لا يستطيع إخفاء دورانه خلف الأرض كما يفعل «تلسكوب هابل»، وبما أن «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» كبير الحجم، فإن دورانه أبطأ من دوران عقرب الدقائق، وعليه، إذا أردنا إدارته 180 درجةً، فإن ذلك يستغرق ساعةً من الزمن إلا قليلًا، وهكذا يمكن تشبيه الوضع بإشكالية البائع المُتجوِّل الشهيرة (التي يتعين على البائع فيها أن يزور كل مدينةٍ في دولةٍ ما مرةً واحدةً فقط وبأقل وقت سفر بين المدن)، كيف يمكن تحديد مجموعةٍ من “الوقفات” على أكمل وجهٍ لتشكيل خط سير؟ نربط مجموعةً من الزيارات المتقاربة في السماء لتفادي الدورانات الكبيرة التي تستغرق وقتًا طويلًا.
ويُمثِّل تعاظُم الزخم اختلافًا آخر بين «تلسكوب هابل» و«تلسكوب جيمس ويب الفضائي»، وهو اختلافٌ مهمٌّ فيما يتعلق بتحديد الجداول الزمنية والعناية بالتلسكوب؛ فقد اتضح أن حقيقة أن للفوتونات زخمًا تفرض قيدًا على عمر «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»، ذلك لأن الداسر الذي يُولِّد قوة الدفع يُعَدُّ من القيود الأساسية على عمر «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»، والتحكم في الزخم أحد أهم استخدامات الداسر.
هل لنا أن نفهم هذا الأمر بشيءٍ من التفصيل؟
للفوتونات التي تصدم الدرع الشمسي على «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» عزمُ دوران، صحيحٌ أننا نستطيع توجيه هذا الدرع على نحوٍ يُبطل هذا العزم، لكننا نريد في الوقت نفسه توجيه التلسكوب إلى أهداف، لا أن نجعل الدرع متوازنًا تمامًا بفعل ضوء الشمس، وهكذا تصدم الفوتونات الدرع وتضغط عليه بعزم دورانٍ، وعندها تدور عجلات «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» الارتكاسية لإبطال هذا الأثر وإبقاء توجيه التلسكوب على حاله، ولكن العجلات الارتكاسية لا يمكنها سوى الدوران بسرعةٍ عاليةٍ جدًّا، فتكون مُضطرةً إلى التخلِّي عن زخمها الزاوي بين حينٍ وآخر، أما «تلسكوب هابل» بمداره المنخفض حول الأرض، فلا يحتاج إلى شيءٍ لإبطاء عجلاته الارتكاسية إلا في المجال المغناطيسي للأرض، غير أن ذلك لا يُجدي نفعًا في الفضاء السحيق، لذا يُطلِق «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» عوضًا عن ذلك دواسره بعكس اتجاه دوران عجلاته الارتكاسية، نُجري عمليات التخلص الدوري من الزخم باستخدام قليلٍ من الداسر في كل مرة، ولكن، وكما ذكرت أنت آنفًا، يصير لدينا في هذه المرحلة داسرٌ كافٍ للاستمرار حتى أربعينيات القرن الحادي والعشرين، وبناءً عليه، من المرجّح أن يكون عمر «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» مرهونًا أكثر بمدى بقاء مكوناته على حالها، ولكن كي أكون صريحًا، أرى أنه من السابق لأوانه أن نحسب كم سيكون عمر التلسكوب وهو لم يزل حديث العهد!
عذرًا، أظن أن سؤالي التالي لن ينال قدرًا كبيرًا من إعجابك: لو افترضنا أن كل شيء ظل على ما يُرام، ولكن أصبح لا محالة من نفاد الداسر، فما الكيفيةُ التي سيفنى بها «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»؟
هل نحن بصدد الحديث بالفعل عن فناء هذا التلسكوب من الآن؟! لو أمكنني تفادي هذا الحديث لفعلت، يبدو هذا سابقًا لأوانه، فهذا تلسكوبٌ حديثٌ تمامًا، هذا الحديث أشبه بالحديث عن موت طفل رضيع، إذا كان الحديثُ يتعلق تحديدًا بمحدودية داسر هذا التلسكوب بمجرد نفاد هذا المورد، فقد نفقد القدرة على توجيه التلسكوب للتأكد من أن ألواحه الشمسية تُبصر الشمس دائمًا في حين لا يُبصرها التلسكوب قَط، في نهاية المطاف، يمكن أن تقع الألواح الشمسية في الظل مدةً طويلةً بما يكفي لجعل استعادة التلسكوب أمرًا مستبعدًا، ستكون تلك اللحظة بمنزلة الرمق الأخير للتلسكوب، وحينها سنعلم أن التلسكوب قد فني بالفعل، ولكن أعود وأقول إنه من الصعب معرفة ما الذي سيحدث بالضبط لهذا التلسكوب في سنواته الأخيرة، ذلك لأنه لا يزال حديث النشأة.
لقد فُوجئنا مثلًا بتصادُم نيزكٍ دقيق مع «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»، وهذا التصادم كان له تأثيرٌ أكبر من المتوقع على الأجزاء الأساسية للمرايا، ونعكف بجدٍّ على دراسة تبعات أحداثٍ كهذه على الأداء البصري المستمر للتلسكوب، والنيازك الدقيقة حقيقةٌ في المدار لا مهرب منها، من شأنها أن تُقلِّص بالتدريج جودة المرايا والدرع الشمسي، ولقد صممنا الهوامش بإتقانٍ كما حرصنا –آخذين ذلك في الحسبان- على التصميم المُتقَن للهوامش ودمجها، ولكن هل كان هذا حدثًا يقع مرةً كل خمس سنوات، وكل ما هنالك أن الحظ لم يحالفنا؟ أم أننا سنُواجَه بتصادماتٍ أخرى من هذا النوع أكثر مما توقعناه؟ هذا ما نسعى لفهمه، لكنني ما زلت أخطط بطبيعة الحال لمهمةٍ طويلةٍ مثمرة.
أجل. في واقع الأمر، يبدو لي أنه قد أصبح لديك ولدى زملائك العاملين في مشروع «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» تعلقٌ عاطفي به إلى حدٍّ ما، هل زاد ذلك من صعوبة التعامل مع مختلِف اللحظات الحرجة الحاسمة التي يمر بها هذا التلسكوب الذي لم يمضِ الكثيرُ من الوقت على خروجه إلى النور؟
في الحقيقة، تتغير المشاعر بالانتقال من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ مختلفةٍ عنها من مراحل التشغيل التجريبي للتلسكوب؛ فخلال الإطلاق، وفي الأسبوعين الأولين اللذَين أعقبا الإطلاق، وفي أثناء إجرائنا عمليات نشرٍ كبيرةً للمعدات، مرت بنا بعض الأيام المُهمة التي علمنا فيها أننا قد نخسر المهمة، وكنا صريحين في ذلك، بل خرجت وكالة «ناسا» على الجمهور بمقطع فيديو بعنوان «29 يومًا من التوتر»، وقد حاولتُ التعامل مع تلك الأيام بنظرةٍ قَدَرية، مفادها: “إن لم يُفلح الأمر، فلا مهمة لدينا”، وبنجاح عملية نشرٍ بعد أخرى، أدركت أنني كنت أُكابد مراحل الأسى، وفي أغلب الأحيان، كنت أساوم قائلةً: “هيا، لننتهِ من الأمر ونُخرج المرآة الثانوية من مكانها، فلا حاجة لي حتى في أن تبسط المرآة الأساسية جناحيها!”.
ولماذا الحديث عن المرآة الثانوية تحديدًا؟
قد توحي كلمة “ثانوية” بأن المرآة غير مهمة، أو أنها بديلٌ احتياطي، ولكن في هندسة التلسكوبات، تعني كلمة “ثانوية” ببساطة أن الضوء يصلها آخِـرًا، بعد المرآة الأساسية، والمرآة الأساسية في «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» مميزةٌ للغاية وأكبر بكثير، ولكنَّ للمرآة الثانوية البالغ طولها 70 سنتيمترًا أهميةً بالغة؛ فلو كنا قد أخفقنا في نشر المرآة الثانوية، لتشتَّت الضوء المنعكس عن تلك المرآة الأساسية الرائعة في الفضاء وفُقد إلى الأبد، بدلًا من أن تلتقطه إحدى الأدوات العلمية، وحتى لو لم تنفتح المرآة الأساسية تمامًا، وظلت المرآة الثانوية معنا، لظل لدينا تلسكوب يعمل، ولكن بمستوى كفاءةٍ أقل، لذا عندما أُعدت المرآة الثانوية على أكمل وجه للاستخدام، أدركتُ حجم القلق الذي تَملَّكني بعد عملي على هذا الشيء طيلة 11 عامًا، مع العلم بأن كثيرًا من زملائي عملوا عليه هم أيضًا مدةً أطول.
واليوم نشعر بالراحة والسعادة لأننا نجحنا في اجتياز تلك اللحظات الحرجة الحاسمة، إضافةً إلى مرحلة “التشغيل التجريبي” المليئة بعملياتٍ تنسيقية واختبارية لكل خطوةٍ نخطوها، وقد برُد التلسكوب إلى أن بلغ درجة الحرارة المطلوبة، واصطفَّت عدساته، وأصبحت أدواته العلمية جاهزةً للعمل، وأخذنا نكتشف الأداء الفعلي للتلسكوب في الفضاء، واستنادًا إلى الصور العلمية الأولى، فإننا لن نكتفي بأن نُثبت للعالم أن «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» يعمل، بل سنُريه أيضًا مدى قدرة هذا التلسكوب على إنجاز جميع المهمات العلمية التي صُنع من أجلها، يا له من شعورٍ رائع!