«تاريخ ثلاث حروب» لرالف الحاج جزئيات فنية على مساحات واسعة
«نقطة الانطلاق هي صور لبيتي المهدم، التقطتها في اليوم التالي لانفجار 4 أغسطس (آب) في مرفأ بيروت. وتحولت خريطة ذهنية، فربطت هذه الأشياء المصورة بسياقها لإعادة بناء الأحداث التي أدت إلى هذه الكارثة». كلمات يختصر بها الفنان التشكيلي رالف الحاج ولادة معرضه «تاريخ ثلاث حروب»، ويستضيفه متحف «بيت بيروت» في منطقة السوديكو حتى 30 الحالي. أما منسّقة المعرض المشرفة عليه فهي مي الحاج.
مساحات واسعة بيضاء تتوسطها لوحات فنية ضخمة، تجمع ما بين فنون التصوير الفوتوغرافي والرسم والتلصيق. الشرارة الأولى لفكرة المعرض انطلقت بالصدفة من حرب عاشها مؤخراً رالف الحاج، ألا وهي انفجار بيروت. يومها راح يصور آثارها على بيت العائلة الذي يسكنه. «كنت أريد أن أرسل هذه الصور إلى أشقائي ليلمسوا مدى فداحة الانفجار. وفجأة تغيرت مشهدية البيت، الأغراض انتقلت من مكان إلى آخر مبعثرة أو مكسورة. منزلي الذي أحب تهدم، كل هذه الأشياء المتناثرة هنا وهناك تربطني بها علاقة وطيدة. استعدت معها ذكريات حروب عشتها وأخرى حدثتني عنها جدتي ريجينا».
ينطلق مشوار رالف الحاج في معرضه «تاريخ ثلاث حروب» من الحرب العالمية الأولى التي تأثر بها من خلال أخبار جدته. ومن ثم يطل على حرب لبنان التي عاشها طفلاً وشاباً فتياً. ولينتهي عند انفجار بيروت مفتاح كل هذه الذكريات التي راودته.
تبدأ رحلتك مع محتويات المعرض بكتاب رقمي نُشرت بعض من أقسامه مرفقة بصور فوتوغرافية. بينها ما يحكي فيها عن منزله المهدم، وانفجار 4 أغسطس، ومائدة الطعام التي كان يتحلّق حولها مع عائلته يومياً. «إنها رمز من رموز الضيافة عندنا في لبنان. اشترتها والدتي لتتسع لـ12 شخصاً. لماذا؟»
يقول رالف لـ«الشرق الأوسط»: إن كل غرض عاينه بعد انفجار بيروت اكتشف أن له علاقة تاريخية ببيته وحياته. حتى حيطان المنزل كان لها أسرارها، ويتابع: «وراء هذه الجدران تقع عمارة أخرى وخلفها تقبع غرفة صغيرة، فيها سُجن 5 رجال عُذّبوا أثناء الحرب اللبنانية، وكنت أرى كيف يتعذبون. حينها كنت في السادسة من العمر».
يحكي في كتابه عن عمارات ومنحوتات وعن الفساد والبيوت التي باعها صاحبها لأكثر من شخص. حتى مسكة باب المطبخ اكتشف فيها مقاومة من نوع آخر. فهي بقيت معلّقة به على الرغم من كل الانفجارات التي شهدتها. يجمع رالف كل هذه الجزئيات من ذكرياته ويعيد جمعها كقطع الـ«بازل». وهل تعدّها ولادة جديدة؟ يرد: «بل أكثر. هي بمثابة عملية إعادة تركيب، ولكن ومهما أجدت هذا الفن فهو لن يعيد الأشياء إلى سابق عهدها وإلى شكلها الخارجي نفسه».
وانطلاقاً من ذكريات جدته ريجينا مع الحرب العالمية الأولى والمجاعة، وكيف استطاعت مع عدد من إخوانها الهرب إلى إسطنبول لمقاومة الجوع، يوضح: «في منزلنا العائلي أغراض وحاجيات، وكل قطعة منها قلّبت صفحات تاريخ وحقبات من الحروب. ومنها انطلقت وبدأ مشواري مع المعرض».
تتفرس في لوحات رالف الحاج الموزعة بشكل دائري في باحة المعرض. ومن خلاله يروي قصة البيت الذي ترعرع فيه. فهو أيضاً تنشق دخان الحروب وسمع الانفجارات ولامسته القذائف.
أول لوحة تستوقفك هي بعنوان «صار شي» ويعلق: «أول عبارة تلفظت بها عندما حصل انفجار 4 أغسطس. كنت يومها مع زوجتي في منطقة فرن الشباك عندما سمعنا دويه». من بعيد ترى اللوحة مغمورة بلون الدماء وملطخة بخربشات وخيوط سوداء. الناس فيها محتشدون، ولكنهم مجرد نقاط صغيرة متلاصقة. تشهد انفراجات طفيفة على اللوحة وإضاءات ووجوه باهتة وعيون جاحظة.
وفي لوحة «سفينة الحمقى» ترتكز على فكرة أن الهوية تحتاج إلى العداوة كي تبقى صلبة ومتشبثة بجذورها. فتحمل وبألوان زاهية مشاهد حياة لأشخاص عدة؛ «أترجم في هذه اللوحة مقولة (شدّ العصب) الرائجة في كل الحروب. فكلما اهتزت البلاد لسبب أو لآخر يتبع زعماؤها العزف على وتر العصبية والتطرف».
وتصل فيما بعد إلى فضاء أسود واسع تنجو من عتمته قدم مكتنزة. بالكاد ترى طيفها لأن الرسوم فوقها هي لبّ الموضوع. فترى وجهاً لكائن بشري ملامحه متداخلة تخرج من رأسه أفكار بالأحمر والأصفر على خلفية سوداء. «إنها تقنية تعرف بـ(كيارو سكورو) تبرز التناقض بين الضوء والعتمة، فتدفعك للتركيز على عنصر واحد في اللوحة يحيط به سواد الليل».
وفي لوحة أخرى بالأسود والأبيض أيضاً، تستشف منها قفزة في الفن البصري. يجمع رالف ما بين الطفولة والتقدم في العمر. فتتفرج على حركات يدين يافعتين وتجاعيد امرأة مسنّة. «إنها لوحة مركبة استخدمت فيها فن الـ(فوتوشوب) وأحكي من خلالها عن حياة بأكملها».
وتستكمل جولتك لتعرج على «حلم رأيته» يصور رالف في هذه اللوحة وجهه المسكون بخيال واسع. فيقع نظرك على ملامح مستيقظة ومتفاجئة ولكن بثبات عميق.
يختم رالف لـ«الشرق الأوسط»: «ميزة هذه التقنية أنها تجمع ما بين التقنيات الفنية من رسم وفن كولاج وتصوير فوتوغرافي وغيرها. بدأته في عام 2002 وكل لوحة أتكل فيها على صيغة الرياضيات. فتبحر في فضاء الهندسة (Geometrie) إلى ما لا نهاية. بحيث تتداخل الأشياء ببعضها لتتراوح بين الخيال والحقيقة».