التخطي إلى المحتوى



معدلات الفائدة المنخفضة.. هل ولّى زمنها؟

من وجهة نظر مالية، كانت سنة 2022 بشكل عام سنةَ معدلات الفائدة المرتفعة. صحيح أن «الاحتياطي الفدرالي» لم يبدأ في رفع معدلات الفائدة قصيرة الأجل التي يتحكم فيها سوى في شهر مارس الماضي، وأن نظراءَه في الخارج لم يتحرّكوا إلا بعد ذاك التاريخ. غير أن معدلات الفائدة طويلة الأجل، وهي التي تهم الاقتصاد الحقيقي أكثر، تواصل الارتفاع منذ بداية العام استشرافاً لتحركات البنك المركزي. وهذه المعدلات المرتفعة تتوافق، بالتعريف، مع الانخفاض في أسعار السندات، لكنها تساعد أيضاً على خفض أسعار العديد من الأصول الأخرى، من الأسهم إلى العملات الرقمية، إلى العقار.
لكن ما الذي سيفعله «الاحتياطي الفدرالي» في الخطوة المقبلة؟ وإلى كم سترتفع المعدلات؟ حسناً، هناك قطاع بأكمله من المحللين الماليين الذين يمكنهم الإجابة عن هذين السؤالين، ولا أعتقد أن لديّ أي شيء مفيد لأضيفه. لكن ما أودُّ الحديث عنه بالمقابل هو ما الذي من المحتمل أن يحدث لمعدلات الفائدة على المدى الطويل. 
العديد من المعلقين يؤكدون أن زمن معدلات الفائدة المنخفضة قد انتهى، ويلحون على أننا لن نعود إلى المعدلات المنخفضة تاريخياً، والتي سادت في أواخر 2019 وأوائل 2020، قبيل الجائحة، وكانت معدلات سلبية في العديد من البلدان. لكني لا أتوقع حدوث ذلك مجدداً، إذ كانت هناك أسباب جوهرية للانخفاض الكبير في معدلات الفائدة قبل ثلاث سنوات. لهذا، فمن الصعب فهم لماذا لن نعود إلى عالم ذي معدلات فائدة منخفضة جداً، بعد أن يهدأ تقع المعركة ضد التضخم. 
أولاً، لا بأس من التذكير ببعض المعلومات المهمة ذات الصلة: إن معدلات الفائدة المنخفضة التي كانت سائدة قبيل الجائحة كانت نقطة النهاية لاتجاه تنازلي دام ثلاثة عقود. ما الذي أدى إلى هذا الاتجاه؟ بعض المعلقين يقولون إنه كان مصطنعاً، وإن «الاحتياطي الفدرالي» استمر في خفض المعدلات عبر طباعة المال. لكن قواعد مبادئ الاقتصاد الكلي الأساسية تقول إن هذا يفترض ألا يكون ممكناً: ذلك أنك إذا أبقيت على معدلات الفائدة منخفضةً لفترة طويلة، فإن النتيجة يفترض أن تكون ارتفاع التضخم. والحال أنه قبل ارتفاع الأسعار في 2021-2022، ظل التضخم ضعيفاً عاماً بعد آخر.
أحد المفاهيم المفيدة هنا، ويعود إلى عالِم الاقتصاد السويدي نات ويكسيل وكتاباته قبل ما يزيد على قرن من الزمن، وهو ما يسمى معدل الفائدة الطبيعي. ويكسيل عرّف المعدل الطبيعي للفائدة باعتباره ذلك الذي يطابق التوفير على الاستثمار، أو المعدل المتوافق مع الاستقرار العام للأسعار. وهذان التعريفان متوافقان في الواقع مع بعضهما بعضاً: إن معدل فائدة منخفض جداً، حتى يفوق الإنفاقُ الاستثماري المعروض من المدخرات، سيؤدي إلى ارتفاع حرارة مفرط وتضخمي للاقتصاد.
والحال أن حقيقة كوننا لم نرَ ارتفاعَ حرارة تضخمياً على مدى ثلاثين عاماً من اتجاه عام لانخفاض معدلات الفائدة إنما يؤشر إلى أن الانخفاض لم يكن اصطناعياً، وأن المعدل الطبيعي لا بد أنه كان ينخفض خلال تلك الفترة. 
لماذا قد يكون المعدل الطبيعي انخفض؟ السبب الأرجح هو انخفاض الطلب على الاستثمار، نتيجة تضافر ركودين ديموغرافي وتكنولوجي. 
النقطة الأساسية هنا هي أن النمو هو الذي يحرّك الإنفاق الاستثماري بشكل كبير، أي النمو في عدد العمال وفي التقدم التكنولوجي. ذلك أن القوةَ العاملة المتنامية تحتاج إلى فضاء مكتبي أكبر، ومنازل أكثر، وما إلى ذلك، بينما القوة العاملة الراكدة لا تحتاج سوى إلى استبدال هياكل ومعدات بسبب تقادمها. ومن جانبه، يستطيع التقدم التكنولوجي أيضاً المساهمةَ في الاستثمار عبر جعل استبدال السلع الرأسمالية القديمة التي عفا عليها الزمن أمراً مفيدا ًوجديراً بالجهد، وكذلك عبر جعل الناس أغنى حتى يمكنهم طلب فضاء عيش أكبر، إلخ. وإذا تباطأ التقدم التكنولوجي، يميل الإنفاق الاستثماري إلى الانخفاض. 
والحال أنه منذ التسعينيات، فقدَ محركَا الاستثمار الكثيرَ من زخمهما. فحينما بلغ آخر شخص ينتمي إلى جيل طفرة المواليد منتصفَ العشرينيات من عمره، تباطأ عدد الأميركيين الذين هم في أوج سنوات العمل والعطاء، والذي كان قد ارتفع على مدى عقود. وهذا الانخفاض الديموغرافي كان أقوى في البلدان الغنية الأخرى، حيث ينخفض عدد السكان الذين هم في سن العمل في أوروبا منذ 2010، وانخفض في اليابان بشكل سريع.
أما التغيير التكنولوجي، فمن الصعب فهمه وتحديده بشكل دقيق، غير أنه من الصعب أيضاً النجاة من الشعور بأن الابتكارات الكبرى باتت نادرةً على نحو متزايد. إذ متى كانت آخر مرة شعرتَ فيها بالإثارة وأنت تتسلّم أحدثَ هاتف «آيفون» اشتريتَه؟ وعليه، فهل هناك أي سبب لتوقع أن يكون عامل الديموغرافيا أو عامل التكنولوجيا أكثر ملاءمةً للاستثمار في 2024، مثلاً، مما كان عليه في 2019؟ شخصياً، لا أتوقع ذلك. 
صحيح أنه كان هناك الكثير من التقدم التكنولوجي في الطاقة الخضراء مؤخراً، ومن الممكن أن يسهم تحولٌ طاقي، مدعوم من سياسات جو بايدن المتعلقة بالمناخ، في الاستثمار خلال السنوات المقبلة. لكن بغض النظر عن ذلك، فإن العواملَ نفسَها التي أبقت على معدلات الفائدة منخفضةً قبل الوباء ما زالت تبدو موجودة. 
ماذا عن التضخم؟ هناك مبدأ قديم للتفكير في معدلات الفائدة يدعى «تأثير فيشر»، ويشير هذا المبدأ إلى أن ارتفاعاً في التضخم المتوقع يفترض عادةً أن يؤدي إلى ارتفاع مماثل في معدلات الفائدة. ومعدل التضخم ارتفع في العام ونصف العام الماضيين. غير أن ذاك الارتفاع قد يكون مؤقتاً. والواقع أن هناك الكثير مما يمكن قوله عن التضخم، لكن الفكرة الأساسية هي كالآتي: خلال التباطؤ الاقتصادي الذي حدث في فترة الوباء، منحت الحكوماتُ الأسرَ مبالغَ ضخمةً من المساعدات للحفاظ على مداخيلها إزاء الإغلاقات الاقتصادية. وهذا كان يعني أن القوة الشرائية للمستهلك ظلت مرتفعةً على الرغم من الانخفاض المؤقت في القدرة الإنتاجية، مما تسبب في ارتفاع الأسعار، ودفع البنوك المركزية إلى رفع المعدلات لإعادة التضخم إلى مستواه المنخفض. 
غير أنه لا يبدو بأن هناك الكثير من الأسئلة حول ما إن كانت هذه الإجراءات ستؤدي إلى السيطرة على التضخم في الواقع. والأكيد أن الأسواق المالية تتوقع عودةَ التضخم إلى مستويات ما قبل الجائحة. 
وخلاصة القول إن معدلات الفائدة المنخفضة لم تكن مصطنعة، بل طبيعية. ومن غير المتوقع أن يؤدي أي شيء إلى ارتفاع المعدل الطبيعي حينما ينتهي الارتفاع الحالي للتضخم. وبالتالي، فإن زمن معدلات الفائدة المنخفضة ربما لم ينتهِ بعد على كل حال. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

Scan the code