يفكر العلماء ملياً في القفز إلى مرحلة وصول الإنسان إلى المريخ، ذلك أن التغيرات المناخية، والكوارث الطبيعية، والأحداث الجيولوجية، كلها عوامل تدفع لوضع خططٍ لاستيطان الكوكب الأحمر. وقد ساهمت التقنيات المتطورة إلى حدٍ بعيد في تحويل هذه الفكرة التي كانت تُعد مجرد خيالٍ علمي إلى حقيقةٍ ملموسة، مع بدء السباق للقيام برحلة مأهولة تتقدمها وكالة “ناسا” ومجموعة من المؤسسات العامة والخاصة، بما في ذلك شركة “سبيس إكس” للملياردير إيلون ماسك، وشركة “بلو أوريجين”، لمؤسس “أمازون” جيف بيزوس.
الحلم أصبح حقيقة
شكَّلت الحياة على سطح المريخ أرضاً خصبة لكتّاب الخيال العلمي، لكن الأمر من الناحية العملية يختلف كثيراً. فالعملية معقَّدة للغاية ومحفوفة بالصعاب والمخاطر، فهذا الكوكب هو الرابع في النظام الشمسي من حيث بُعده عن الشمس. وهذا البُعد يجعله كوكباً بارداً جداً وغير مناسب لوجود الماء في حالته السائلة. وتساوي جاذبيته 38 في المئة من قوة جاذبية الأرض، وغلافه الجوي رقيق وخفيف جداً، أقل بمئة مرَّة من الغلاف الجوي للأرض. لذا، فهو غير صالح للتنفس إطلاقاً، إذ إنه يتكوَّن بنسبة 96 في المئة من ثاني أكسيد الكربون، إضافةً إلى غازيّ النيتروجين والأرجون، ونسبة ضئيلة جداً من بخار الماء والغازات الأخرى.
ورغم ذلك، هناك بالفعل عدة خطط بحثية قائمة تتطلع يوماً ما لتحقيق استيطان المريخ، ولعل أبرز اختراقٍ علمي تحقق العام الماضي، تمثل بإعلان وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” تسجيل سابقة فريدة خارج كوكب الأرض، في إحدى مهماتها إلى المريخ، وهي تحويل ثاني أكسيد كربون من الغلاف الجوي للكوكب الأحمر، إلى أوكسجين نقي يمكن تنفسه عبر جهاز يُعرف اختصاراً باسم “موكسي”، وصفته بأنه أول تكنولوجيا من نوعها لمساعدة المهمات في المستقبل في العيش على كوكبٍ آخر.
قفزة عملاقة
وفي جديد الدراسات البارزة لاستيطان الكوكب الأحمر، حقق بحث جديد “قفزة عملاقة” إلى الأمام في خطط البشرية لاستعمار المريخ، إذ نالت دراسة مفصلة نُشرت حديثاً، ثناء العلماء لكونها تتضمن خطة لاستخدام هواء المريخ وغباره وأتربته وأشعة شمسه لاستخراج المعادن.
الدراسة التي نشرها فريق من الباحثين بقيادة البروفيسور أكبر رمضاني، من جامعة “سوينبورن للتكنولوجيا” في أستراليا، هي أول دراسة مفصلة من نوعها حول إنتاج المعادن خارج كوكبنا. وتأتي كمكملٍ ضروري لخطط البشرية للعيش على كوكبٍ آخر، حيث ستسمح لهم ببناء هياكل كبيرة على عوالم غريبة من دون الحاجة إلى نقل أكوام هائلة من مواد الأرض.
بالتركيز على استخراج المعادن من الكوكب الأحمر، يقوم علماء “سوينبورن” حالياً بتطوير عملية من شأنها أن تأخذ الهواء المعالج والأغبرة وأشعة الشمس على المريخ لإنتاج الحديد المعدني. وستستخدم العملية الطاقة الشمسية المركزة كمصدر للحرارة والكربون، والتي يتم إنتاجها عن طريق تبريد غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو منتج ثانوي لإنتاج الأوكسجين في الغلاف الجوي للمريخ.
استغلال معادن المريخ
وبما أن وكالة الفضاء الأميركية قد نجحت بالفعل بإنتاج الأوكسجين من خلال “موكسي MOXIE”. يعتزم علماء الجامعة الأسترالية ربط عملية استخراج المعادن بمحطة توليد الأوكسجين مستقبلية أكبر بكثير من “موكسي”. وستساعد هذه الآلة في إنتاج كل من الأوكسجين وسبائك الحديد، والتي يمكن استخدامها لإنشاء معادن للمهام البشرية المستقبلية والتطور على المريخ.
ولأنه ليس من السهل هندسة كوكب بشكل جذري وكامل ليكون شبيهاً بكوكب الأرض، فذلك يحتاج إلى تكلفة مالية باهظة ومدة طويلة، سيجنب إنشاء المعادن على المريخ، كما هو مفصّل في الدراسة، وكالات الفضاء الأمر المكلف المتمثل بنقل الموارد بحجمٍ هائل من الأرض، ما يجعل استعمار الفضاء “أكثر كفاءة وأقل تكلفة”.
من جهته، علّق البروفيسور أكبر رمضاني على الدراسة بالقول “نود تطوير عملية استخراج المعادن على المريخ التي تستخدم بالفعل الموارد الموجودة في الموقع، من دون جلب المواد المتفاعلة من الأرض، لدعم المزيد من المهام البشرية والتنمية على المريخ”.
بدوره، قال مدير معهد “سوينبورن” لتكنولوجيا الفضاء والصناعة، البروفيسور آلان دافي “أستراليا ملتزمة بدعم عودة ناسا إلى القمر والذهاب إلى كوكب المريخ في مشروع أرتميس، وسنحتاج لاستخدام موارد القمر والمريخ من أجل جعل ذلك ممكناً”.
أقرب من أي وقت!
يُذكر أن رئيسة شركة “سبيس إكس” ومديرة العمليات، غوين شوتويل، كشفت قبل بضعة أشهرٍ أن البشر سيصلون إلى كوكب المريخ خلال هذا العقد، مبديةً اعتقادها أنه في غضون خمس أو ست سنوات، سيرى الناس أن ذلك سيكون بمثابة مكانٍ حقيقي للذهاب إليه. فيما قدّم إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي للشركة تنبؤاً آخر في الآونة الأخيرة قال فيه أن البشر سيكونون على المريخ تحديداً عام 2029.
وتعمل “سبيس إكس” مع “ناسا” في الوقت الحالي على القيام بأول رحلة تجريبية مخصصة لرحلات إلى القمر وكوكب المريخ إلى مدار الأرض هذا العام، من خلال مركبة “ستارشيب”. وقد أثبتت هذه الشركة أن عصر سفر البشر عبر الفضاء أصبح على الأبواب عندما عادت مركبتها “كرو دراغون Crow Dragon”، إلى الأرض بنجاح، لتكمل بذلك أطول رحلة لنقل البشر عبر الفضاء ذهاباً وعودة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. ومثّلت عودة رواد المهمة اكتمال أول مهمة لتناوب رواد الفضاء على محطة الفضاء الدولية في إطار الشراكة بين “ناسا” و”سبيس إكس” ضمن برنامج المهام التجارية لتطوير وتشغيل نظم نقل البشر في الفضاء.
مستعمرة المريخ
ولا بد لنا في السياق أن ننقل أخر ما نشرته “سبيس إكس” عن “مستعمرة المريخ” التي تنوي تشييدها بحلول عام 2050 والتي ستكون مفتوحة لعامة الناس، وربما تبلغ تكلفتها النهائية أرقاماً فلكية قد تصل إلى حوالى 10 تريليون دولار. ومحور الخطة يرتكز على مركبة “ستارشيب” القابلة لإعادة الاستخدام بالكامل، والتي يجري تطويرها حالياً في تكساس، والتي ستمكن من إرسال البشر والبضائع إلى المريخ، وتكون قادرة على إطلاق أكثر من 100 طن أو 100 شخص إلى الفضاء في وقتٍ واحد. أما شكل المستعمرة فسيبدأ بسلسلة من القواعد، ويتوسع تدريجياً بمرور الوقت.
وبينما يبلغ متوسط درجة حرارة سطح المريخ الحالية 63 درجة مئوية تحت الصفر. تتمثل فكرة ماسك في تسخين قطبيّ الكوكب لإطلاق مخازن ثاني أكسيد الكربون المجمدة. وهذا من شأنه أن يستخدم سلسلة من الانفجارات المستمرة منخفضة التداعيات الاندماجية النووية. وبالتالي، تتمثل الفكرة في استخدام مخازن ثاني أكسيد الكربون لخلق جو أكثر ملاءمة. ويمكن للبشر بعد ذلك التجول حول الكوكب باستخدام جهاز التنفس وحسب.
ومع ذلك، لا يتفق الجميع في صناعة الفضاء مع رؤية ماسك. إذ يفضل جيف بيزوس، بناء مدن عملاقة تدور حول الأرض لتوسيع البشرية. معللاً ذلك ببعد رحلة المريخ ذهاباً وإياباً، وضعف الاتصالات في الوقت الفعلي مع الأرض بسبب المسافة. حيث يستغرق الأمر حوالى 20 دقيقة لإرسال إشارة إلى المريخ، وهي أبطأ بكثير من أجزاء الملّي ثانية التي يستغرقها الاتصال عبر الإنترنت. لذا، فهو يفضل بناء مستعمرات على طراز “أونيل” (مستعمرة فضائية باستخدام مواد مستخرجة من القمر، وربّما لاحقاً من الكويكبات المجاورة) في مدار الأرض. ويدّعي أن هذا يمكن أن يدعم ما يصل إلى تريليون شخص.