التخطي إلى المحتوى

الشارقة: علاء الدين محمود
«أحب أن أعرّف نفسي بأنني شاعر عربي من الإمارات، بكل ما يمكن أن تثيره هذه العبارة من مضامين ودلالات ومسؤوليات أيضاً»، هكذا تحدث الشاعر الرحل حبيب الصايغ، الذي تصادف ذكراه الثالثة اليوم، بكلمات حدد فيها انتماءه القومي والوطني، وحمل هم ذلك الانتماء في أشعاره ونصوصه، حيث تغنى بالوطن وبالعروبة في ثنائية تأبى أن تنفك، فكانت مسيرته في الحياة تتحدث عن قصة شاعر لا يعرف الغياب، صاحب تجربة إبداعية مختلفة من حيث الثراء والتنوع والتعدد والحس الإنساني الصادق، والرؤى الفكرية اللامعة، فقد كتب الراحل نصوصاً شعرية في كثير من المواضيع والقضايا، فكانت الإجادة والدهشة والتميز هي العنوان العريض.

نشأ الصايغ في بيت علم وأدب وبيئة دينية وعلمية، فقد كان جده شاعراً، أما والده فقد كان مغرماً بالأدب والعلم، وكانت للأسرة مكتبة ضخمة أغرت الصايغ الطفل بدُررها، فأقبل عليها وهو لا يزال صغيراً، ثم يافعاً، فقد شجعه أهله على قراءة كتب التراث، فكان أن اطلع على الأدب الجاهلي والإسلامي، وما تلا تلك العصور، والغريب أن الصايغ شاعر النثر الذي لا يشق له غبار، كان منحازاً في بداياته للتراث، وكان يقف تماماً ضد الحداثة، وربما ذلك ما دفعه للقول: «كنت أظن أن الأصالة تنحصر فقط في تمثل ذلك التراث وكتابته، بعد ذلك تطور مفهوم تمثل التراث عندي فأصبح هضمي لذلك التراث يساعدني على الإبداع بشكل أكبر وأكثر، ثم بالدرس والاطلاع والتخصص في الفلسفة في ما بعد أفدت كثيرًا، الفلسفة مفيدة لي كشاعر».

بدايات

يكمن تميز الصايغ في كونه بدأ الكتابة صغيراً؛ أي في وقت باكر، وكان ذلك في عام 1967، وظل منذ ذلك الوقت ينثر إبداعه الشعري الكثير والمتفرد والمتنوع، فكان أن صدر أول ديوان له في عام 1980، والذي حمل عنوان «هنا بار بني عبس.. الدعوة عامة»، والذي تلته الكثير من الأعمال والمجموعات المميزة مثل: «التصريح الأخير للناطق باسم نفسه»، و«قصائد إلى بيروت»، و«وردة الكهولة»، و«رسم بياني لأسراب الزرافات»، وحتى ديوانه الأخير «كسر في الوزن»، وكان الصايغ يكتب الشعر منه البسيط الذي يخرج من القلب بدفق شعوري وموسيقى كحفيف الأشجار، ومنه الذي يختبئ خلف الرمز، ينتظر التأويل، متنقلاً بإبداع من العمود الخليلي، إلى التفعيلة، إلى قصيدة النثر بمعرفة كبيرة لتقلبات الزمان ومنعطفاته التي تجعل من التحديث والتطور أمرين لابد منهما، فقد كان من الشعراء المهتمين بقضيتي الحداثة والتجديد.

تأثر

على الرغم من أن الصايغ ولد في أسرة فيها عدد من الشعراء، إلا أنه تأثر أكثر بأسماء ونجوم برزت في سماء القصيدة العربية، خاصة بدر شاكر السياب، وسعدي يوسف، ومحمد الماغوط الذي كان من أبرز شعراء قصيدة النثر، وكان له تأثيره في كثير من كتاب الإمارات، ودائماً ما يتحدث الصايغ عن الفترة التي قضاها الماغوط كمسؤول عن القسم الثقافي في جريدة «الخليج» بالشارقة، حيث كان ينشر قصائده القديمة أسبوعياً، في صحيفة «الخليج» والتي كان يطلع عليها الشعراء في الإمارات ويستفيدون منها، ودائماً ما يشير الصايغ إلى أن الماغوط قد عرّفه إلى قصيدة النثر، وأدخله إلى عوالمها بعد أن كان متحيزاً للقصيدة العمودية، يقول الصايغ عن ذلك الأمر«ربما أحببت قصيدة النثر لأنني أحببت الماغوط نفسه أولاً»، وذلك الحديث يشير إلى الأثر الكبير والحاسم للماغوط في حياة الصايغ، حيث أحدث فيه تحولاً كبيراً نحو الحداثة، وشعر النثر، حتى إن الكثيرين اعتبروه أباً للقصيدة الحديثة في الإمارات.

مسؤولية

لعل أكثر ما يميز الصايغ، تعامله مع الشعر بمسؤولية كبيرة، فقد كان صاحب موقف ورأي، وهو من الذين وجدوا في الشعر رسالة ومعنى، فأولاه الاهتمام التام إلى حد أصبح فيه الشعر قضيته الأساسية، فكرّس له حياته ووقته، يقول الصايغ: «الشعر يستحق، والشعر العربي يستحق، فهلّا تعامل العرب مع الشعر بجدية أكبر، هلا منحوه نور العيون والقلوب ووضعوه في واجهة الانشغالات، هلا اعتبروه في أولويات حركة الحاضر والمستقبل»، وتلك الكلمات تشير إلى مدى الجدية في التعامل مع الأدب من قبل شاعرنا، والذي صاغ مواقفه الإنسانية والعاطفية والوطنية والحياتية داخل نصوصه التي تضج بالحياة والخير والحب والجمال، ومما يدل على الانشغال الكامل للصايغ بالمشروع الشعري، ذلك الإنتاج الغزير فقد توالت أعماله الشعرية حتى بلغت 10 دواوين، وكذلك تميز الصايغ بالاستقلالية، فقد كان يعبّر دائماً في نصوصه عن موقفه الخاص، لذلك فإن كل نصوصه الشعرية ومقالاته الصحفية جاءت أصالة عن نفسه، في سياق سعيه وإصراره على أن يكون حراً في الشعر والثقافة، لا يتبنى إلا ما يراه صحيحاً، وذلك الموقف نتعرف إليه من خلال نصه «التصريح الأخير للناطق باسم نفسه»، والذي يشير إلى استقلالية واعتداد بالنفس لدى شاعرنا، فهو ينشد الحرية لنفسه، في أن يقول ما يريد، فالقصيدة بمثابة بيان، يحدد الشاعر من خلاله وجهته وموقفه الحر الذي يشبه بالفعل موقف المثقف الحقيقي الذي لا يتبع غير ضميره.

العروبة والوطن

تغنى الصايغ بالعروبة، كما لم يفعل شاعر عربي من قبله، فقد مثلت له هوية وموقفاً فكرياً، لذلك عبّر عنها في نصوصه الشعرية، واتضح ذلك الأمر منذ ديوانه الأول «هنا بار بني عبس.. الدعوة عامة»، ولعل العنوان نفسه جاء وهو يحمل دلالات وإشارات الانتماء العربي، ويتمثل ذلك في استعادته لشخصية عربية مؤثرة، وهي عنترة بن شداد، فقد تمثل الصايغ الثقافة العربية من دون أي ضجيج حزبي، أو أيديولوجي، كانت العروبة هاجساً بالنسبة إليه، حملها في أشعاره حلماً ووعداً، ودافع عنها وعن الإرث والتاريخ العربي، وكانت سبعينات القرن الماضي مسرحاً لأمل عربي في التقارب والوحدة، وقد تغنى الصايغ بذلك الأمل جاعلاً من الشعر فكرة تعبر عن مستقبل عظيم للأمة العربية، وكذلك يحضر الوطن «الإمارات»، بصورة كبيرة وواضحة في أشعار الصايغ ونصوصه المحتشدة بالآمال العريضة في تقدم الإمارات وتطورها ونهضتها وازدهارها، ولعل الصايغ لم يكتف بالشعر فقط، فقد كان يلجأ إلى المقال الصحفي، يوضح فيه رؤيته، ويخاطب به أكبر قدر من القراء، فكانت مقالاته الصحفية محتشدة بالآراء التي تتناول المواضيع الوطنية، والملاحظة المهمة في هذا السياق أن الشعرية لم تفارق الكتابات الصحفية للصايغ.

يحضر في قصائد الصايغ ذلك المزج بين الوطن والحبيبة، ونلاحظ أن شاعرنا لم يتغنّ بالبلاد فقط، من خلال قصائده، كما جاء في قصيدته «لو كنت»، بل كذلك ركز على المكان الذي يحتل مساحة كبيرة في أعماله مثل: «كسر في الوزن»، و«أسمي الردى ولدي»، إذ إنه في تلك النصوص يقص جانباً من سيرته، ويحكي عن الأمكنة التي شكلته وأسهمت في تكوينه الوجداني والعاطفي، وهو لا يبتعد هنا عن التقاليد العربية القديمة في الشعر، إذ كان الشعراء العرب القدامى يتناولون سيرتهم الذاتية من خلال الأمكنة التي عاشوا فيها، فقد كان مدافعاً عن الوطن بالكلمة، شعراً ومقالة، فالصحافة كان لها دور كبير في تجربة الصايغ، وربما ذلك ما دفعه للقول: في رأيي أن الصحافة هي أفضل مهنة للشاعر لأنها تجعله دائما في تنور الأحداث، وتجعله على صلة بالناس، وتكسر حدة العزلة التي يعيشها في داخله، فالشاعر أصلاً معزول دائماً، حتى ولو كان في وسط الجماهير»، لذلك كانت زاويته في صحيفة «الخليج» بمثابة منبر يتناول فيه الصايغ هموم الوطن والحياة بلغة لم تتخل عن الشعر والشاعرية.

مناصب

ولئن كان الصايغ تفرّد في جانب الشعر والصحافة، فهو أيضاً في تميز في الجانب الإداري، حيث تقلد العديد من المناصب المهمة، لعل أبرزها قيادته لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات، تلك المؤسسة التي انتمى إليها وكان ضمن مؤسسيها، وترأس مجلس إدارتها في عدد من الدورات، وكذلك كان الصايغ أول خليجي يترأس منصب الأمين العام لاتحاد الكتاب العرب، كما ترأس تحرير صحيفة «الخليج»، وعدد من المناصب التي شهدت له بمقدرة إدارية عالية ومتميزة.

إضاءة

ولد الصايغ عام 1955 في أبوظبي، وحصل على إجازة الفلسفة عام 1977، كما حصل على الماجستير في اللغويات الإنجليزية، العربية والترجمة عام 1998 من جامعة لندن، وشارك في عشرات المؤتمرات والندوات العربية والعالمية، وفي رصيده الشعري أكثر من 10 دواوين، وترجمت قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية والصينية، ورحل عن دنيانا يوم 20 أغسطس/ آب عام 2019.

Scan the code