حضارة زراعية عريقة احتضنتها «ضفاف وادي حنيفة» لمئات السنين
«نخيل الدرعية».. تاريخ طويل من الازدهار الاقتصادي وأصالة الموروث
تاريخ طويل وعريق في زراعة النخيل وإنتاج التمور التي ارتبطت على نحوٍ وثيق وتاريخي بالدرعية؛ فالنخيل والتمور لا تُمثل لسكان الدرعية الجانب الغذائي والاقتصادي فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى قيم الضيافة في المناسبات الاجتماعية، والموروثات والثقافة الشعبية العريقة التي توارثها سكان الدرعية على مرّ العصور. وفي هذا الإطار جاءت مبادرة سوق الدرعية للتمور لدعم مشاركة المجتمع المحلي، وتعزيز الاستفادة من المقومات الاقتصادية والتنموية المتنوعة التي تزخر بها الدرعية في مختلف المجالات، وللحفاظ على الموروث التاريخي والحضاري للدرعية.
ولعل قيمة النخيل وثمارها في المملكة العربية السعودية بوجه عام، والدرعية بوجه خاص، كانت ولا تزال مصدرًا للرواج الاقتصادي وعنصرًا رئيسًا حاضرًا في حياة المجتمع، ومحورًا مهمًّا تدور حوله أعمال سكّانها. ولموقع الدرعية المتميز على ضفاف وادي حنيفة بطبيعته الخلابة دور أساسي في وفرة المياه وخصوبة التربة، وهي أبرز المقوّمات التي جعلتها مكانًا ملائمًا للعيش والاستقرار والازدهار، فقد تأسست الدرعية عام 850هـ / 1446م على يد الأمير مانع المريدي الذي استقرّ مع عشيرته في منطقتي غصيبة والمليبيد اللتين شكلتا نواة الدرعية، وتذكُر المصادر أنّ مانعًا المريدي حين نزل الدرعية «عَمَرها، واتسع بالعمارة والغرس في نواحيها»، ولا شك أنّ بيئة الدرعية، وخصوبة تربتها، ووفرة مياهها، ومناخها من العوامل التي ساعدت على انتشار زراعة النخيل فيها، حتى اشتهرت الدرعية بكثرة نخيلها ووفرة إنتاجها من التمور، فقد كانت مزارع النخيل تمتدّ على ضفتي وادي حنيفة، وعلى ضفاف الشعاب المتعددة التي تنساب حول الوادي، مثل: غبيراء، والبليدة، وقليقل، والمغيصبي، وغيرها. واعتمد المزارعون في مواسمهم الزراعية على حساب الأنواء ومراقبة حركتها، وهي نتيجة خبرات متراكمة من أجيال متعاقبة، إذ كانت هذه الحسابات شائعة آنذاك، وتوارث أهالي الدرعية معرفة فلكية صاغوها في شكل أمثال وأسجاع، منها: «إلى طلع المرزم شد المحزم»، و»إلى طلع سهيل تلمس التمر بالليل». ووقّتوا زمن خراف النخل (تحوُّل البلح إلى رطب) بالمدة التي بين طلوع المرزم إلى حلول الوسمي، وهي كذلك مدة غرس النخل الجديد.
ازدهار اقتصادي.. وتكاتف وتعاون مجتمعي
وفي ظل ما تتطلبه زراعة النخيل ورعايتها من جهد متواصل وارتباط بالأرض، لم تقتصر الحاجة على مالك النخل والفلاح الذي يعتني بها فحسب، ولكنّها امتدّت إلى مجموعة من الأفراد لكلٍّ منهم دورٌ لتغطية جميع جوانب مراحل الزراعة. ومن بين الأعمال والمهام التي كان يتولاها المزارعون العمل على السواني، وسقي النخل، وإصلاح السواقي والغروب، ورعاية الحيوانات المستخدمة في استخراج المياه، ومنهم من يساعد في الحرث، وتلقيح النخيل، ومواسم الخراف (جني الرُّطب)، والجذاذ أو الصّرام (وقت جني التمر)، فبذلك تطوّرت أساليب لتقاسم الزراعة والعمل وتعاون المجتمع على الزراعة، وتوفير متطلباتها من أدوات ووسائل مقابل جزءٍ من محصول التمور.
ويمتد هذا الإرث إلى يومنا الحاضر، ممثلًا في سوق التمور الموسمي بالدرعية الذي تنظمه هيئة تطوير بوابة الدرعية في نسخته الثالثة، والذي بدأ في الأول من يوليو، ويستمر حتى 31 سبتمبر المقبل. وإبّان زمن ازدهار الدّرعية في عهد الدولة السعودية الأولى كانت النخيل تباع بـأثمان مرتفعة؛ نتيجة لارتفاع الطلب، ونمو عدد السكّان، وازدهار التجارة، وموقع الدرعية الإستراتيجي إذ كانت وجهةً ومحطةً مهمة على طرق التجارة والحج، ترتادها القوافل وتنزل بها باستمرار، فذكرت المصادر أنّ النخلة الواحدة بلغ سعرها آنذاك من أربعين إلى ستين ريالًا، كما كان سعر «الوَزْنة» من التمر أحد مؤشرات الأسعار التي دوّن المؤرخون جوانب منها ارتفاعًا أو انخفاضًا، حسب حال المطر ووفرته أو انحباسه، بصفتها سلعة غذائية رئيسة في مجتمع الدرعية. وبفضل زراعة النخيل، ظهرت وتطورت مع الزمن مجموعة واسعة من المهن والحرف التي يعمل فيها أفراد المجتمع كلٌّ في مجاله، فهناك المتخصص في حفر الآبار وطيّها، وثمة النجّار الذي يتولّى إصلاح السواني والمحّالات، والفلاح، والكالف وهو الذي يعمل بأجر لعمل محدّد، والشمّال الذي يتولّى رعاية النخيل وتلقيحها.
يُعدّ التمر من الأغذية الأساسية التي كان سكّان الدرعية يتناولونها لمئات السنين، ولا سيما أن تمور الدرعية لها أنواع مختلفة ومذاقات مميزة، من بينها: الصقعي، والمنيفي، والخضري، والمكتومي، وغيرها من الأنواع. كما تُصنع من التمر أطعمة ومشروبات مختلفة، منها: القِشد، والمحلى، والحنيني، والمريس، والدبس، والشعثة وغيرها من الأطعمة والوجبات. أما تأثير النخيل والتمور في الثقافة الشفهية والأمثال فعبّرت عنه كثيرٌ من الأمثال الشعبية، ومنها، على سبيل المثال: «يوم الصرام، كلٍّ كرام»، ويعني أنّ جميع الناس يعدّون كرامًا في يوم صرم النخل؛ لأنهم لا يمنعون من أراد أن يأكل من التمر في ذلك اليوم.