عندما أقدمَتْ وكالة «ناسا» على صُنع تلسكوبها الأحدث والأكثر تطوُّرًا، «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» James Webb Space Telescope، أرادَتْ أن تُطلَّ عبر عدساته على أرجاء الكون البعيدة، وتمُدَّ البصر إلى فجر الزمن. وها هي تُصيب ما أرادت، وبنجاحٍ باهر. فمنذ وردَتْ إلينا أولى الصور والبيانات العلمية من التلسكوب، قبل نحو شهر، خرج علماء الفلك بسيلٍ من الاكتشافات المبدئية، بينها ما يخصُّ عددًا من المجرَّات المرشحة لأن تكون أبعدَ ما رصدناه من المجرات على الإطلاق.
يَظهر في صور تلسكوب «ويب» حشدٌ من المجرات التي تلتمع في أقاصي الكون، لنراها على الهيئة التي كانت عليها عندما لم يكن قد مرَّ على الانفجار العظيم، الذي حدث قبل 13.8 مليار سنة، سوى مئات الملايين من السنين. وقد حَطَّمَتْ صور التلسكوب – الواضحةُ حدَّ الإبهار – الانطباعات المسبقة التي استقرَّت في أذهان علماء الفلك عن الكون في أوَّل عمره.
تقول جيهان كارتالتيبي، عالمة الفلك بمعهد روتشستر للتكنولوجيا في نيويورك: “كان لدينا تَصوُّر عن المظهر الذي ستبدو به المجرات عندما تكون على هذا النحو من البُعد، وكذا عن كم التفاصيل التي سنتمكن من رؤيتها، لكن الواقع فاقَ كلَّ التصوُّرات”.
وإليكم بعضًا مما عرفه علماء الفلك من مشاهدات تلسكوب «ويب» الأولى.
مجرّات لا تكاد تُحصى عددًا
يستطيع تلسكوب «جيمس ويب» التقاط الأشعة تحت الحمراء، ما يجعله قادرًا على رصد المجرات التي تكونت في أول عمر الكون؛ ذلك أن أشعة الضوء تتمدَّد، مع تمدُّد الكون، لتستقرَّ عند أطوال موجية أكثر احمرارًا. وفي أوَّل برامج الرصد التي أجراها التلسكوب، والتي بدأت في شهر يونيو الماضي، اكتشف عدة مجرات أبعد من أن تلتقطها المراصد الأخرى، ومنها «تلسكوب هابل الفضائي» Hubble Space Telescope.
يقول ريتشارد إليس، عالم الفلك في كلية لندن الجامعية: “في ذلك إشارةٌ على وجود مجرات أبعد مما رأيناه بتلسكوب «هابل»، وهو ما يؤيد الرأي الذي سبق أن قال به كثيرون منّا”.
بدأ عصر المجرات الأولى في الحقبة التي يُطلق عليها «فجر الكون»؛ أي بعد الانفجار العظيم بقرابة 250 مليون سنة، حين تشكَّلت أولى النجوم لتشقَّ ظلام الكون. ثم كان أن احتشدت الأجيال التالية من النجوم في مجرات، هي الكُتَل الحمراء الخافتة التي شرع تلسكوب «ويب» في استكشافها.
رأينا كثيرًا من صور التلسكوب وهي مُرصَّعة بمجرَّات من أقاصي الكون، لم تقع عليها من قبل عينُ بشر. تقول كارتالتيبي: “لا تكاد تخلو رقعةٌ من السماء من شيءٍ ما”.
عكفت إحدى الدراسات على فحص بيانات الكثير من حقول المجرات البعيدة التي رصدها تلسكوب «ويب» حتى الآن، لتدرس معدَّل تكوُّن النجوم في أولى مراحل الكون، فإذا بها تكتشف 44 مجرة لم تَكن معروفة من قبل، يعود تاريخها إلى 300 مليون عام بعد الانفجار العظيم على وجه التقريب. يشهد هذا الاكتشاف، إلى جانب 11 مجرة مُكتشَفة من قبل، على وجود عدد كبير من المجرات التي تضمُّ نجومًا في أول عمر الكون1. وفي مسوَّدة أولية للدراسة، ذكر الفريق البحثي، الذي قاده كالَم دونان، الباحث بجامعة إدنبرة في المملكة المتحدة، أن هذه النتائج “تُؤكد من جديد الدورَ الهائل الذي يمكن أن تلعبه برامج الرصد الأوسع نطاقًا، التي سيُجريها تلسكوب «ويب»، في إحداث نقلة هائلة في فهمنا للكون في صباه”.
الأبعد على الإطلاق: ليست مجرّة واحدة.. بل مجرّات
وسط هذا السعي المحموم لنشر الأبحاث، برز تدافُع الفَرَق البحثية لتحديد المجرَّة الأبعد، من بين المجرَّات التي ظهرت في صور التلسكوب. وجد الباحثون عديدًا من المجرات المرشحة لأن تكون الأبعد على الإطلاق، لكنها تحتاج مزيدًا من الدراسة كي نتحقق من مدى بُعدها. الشيء المؤكَّد أن هذه المجرَّات، جميعَها، تكسر الرقم القياسي لأبعد مجرَّة رصدَها تلسكوب «هابل»، وهي مجرَّة تكوَّنَتْ بعد الانفجار العظيم بنحو 400 مليون عام2,3.
بزغَتْ إحدى تلك المجرات في دراسة مسحيّة لبياناتتلسكوب «جيمس ويب»، تسمَّى «جلاس» GLASS، وظهرت في رفقتها مجرَّة أخرى، أقربُ قليلًا، في صورة واحدة4. يقول ماركو كاستِلانو، عالم الفلك بالمعهد القومي الإيطالي للفيزياء الفلكية بروما: “عثورنا على هاتين المجرتين الساطعتين كان مفاجأة كبيرة”، إذ لم يَكن هو وزملاؤه يتوقعون أن يجدوا في هذه البقعة الصغيرة من السماء أي مجرة بهذا البُعد (وتمكن فريق آخر أيضًا من العثور على المجرتين نفسيهما5).
“أصبح في مستطاعنا أن نرى مجراتٍ تتخذ شكل القرص في مراحل أبكر بكثير مما كنا نعتقد سابقًا”.
يحسب علماء الفلك المسافة التي تفصلنا عن مجرةٍ ما بالاستناد إلى قياس يسمى «الانزياح نحو الأحمر»، وهو قياس لمدى انزياح الطول الموجي للضوء القادم من المجرة نحو الأحمر، وكلما كان الانزياح أكبر، كانت المسافة أكبر. يبلغ انزياح المجرة المذكورة في دراسة «جلاس» 13 تقريبًا. لكن في يومَي الخامس والعشرين والسادس والعشرين من يوليو الماضي، أي بعد أيام من إعلان العلماء عن المجرة المذكورة، انهمرت على موقع المسوَّدات البحثية «أركايف» arXiv أوراق بحثية تَدّعي العثور على مجرات ذات انزياحٍ أكبر. يقول روهان نايدو، عالم الفلك بمركز بمركز هارفارد-سميثسونيان للفيزياء الفلكية، ومقرُّه مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية: “هذه ليست سوى البداية”.
وظهرت مجرة أخرى مرشحة للفوز بلقب «الأبعد على الإطلاق»، بانزياحٍ نحو الأحمر يبلغ 14، في دراسة مسحيَّة تدعى «سيرز» CEERS، تُعد إحدى أهم مشاريع تلسكوب «ويب» المسحيّة الأولى. أطلق الباحث الرئيس في الدراسة المذكورة، وهو ستيفن فينكلستاين من جامعة تكساس في مدينة أوستن الأمريكية، على هذه المجرَّة »مجرة ميزي« Maisie’s Galaxy، نسبةً إلى اسم ابنته6. وأكبَّتْ دراسة أخرى على فحص أول صورة عميقة المجال التقطها التلسكوب، وهي صورة التي نَشرها الرئيس الأمريكي جو بايدن في الحادي عشر من يوليو الماضي، وعثر الباحثون القائمون على الدراسة في تلك الصورة مجرَّتين يبلغ انزياحهما 16؛ ما يعني أنهما تكوَّنتا بعد 250 مليون عام فقط من الانفجار العظيم. وثمَّة على موقع «أركايف» أبحاث أوراق تشير إلى مجرَّات أخرى مرشحة لنَيل اللقب، وتُرجح أن الانزياح قد يصل في بعضها إلى 20 (انظر المرجع 88).
بعض المجرات الأولى معقّدة التكوين
تَبيَّن أن للمجرات القاصية، التي أزاح تلسكوب «جيمس ويب» الستار عنها، بنيةً أكثر انتظامًا مما كان يعتقد علماء الفلك في السابق. وقد تفاجأ الباحثون القائمون على دراسة تناولَت أول صورة عميقة المجال التقطها التلسكوب؛ إذ وجدوا عددًا كبيرًا من المجرات القاصية التي تتخذ شكل القُرص9. كان علماء الفلك، مستندين إلى ما سبق رصده بتلسكوب «هابل»، قد خَلصوا إلى أن المجرات البعيدة أقل انتظامًا من نظيراتها القريبة، التي عادة ما تتخذ أشكالًا منتظمة، كشكل القرص مثلًا، كما هو الحال في مجرَّتنا، مجرَّة «درب التبانة»؛ وانتهوا من ذلك إلى نظرية مفادُها أن المجرات الأولى تُشوِّهها عادةً التأثيرات المتبادلة بينها وبين المجرّات المجاورة. لكن ما رصده تلسكوب «ويب» يُنبئ أن عدد المجرات القاصية التي تتخذ شكل قرص قد يبلغ عشرة أضعاف العدد الذي انتهت إليه تقديرات العلماء فيما مضى.
تقول أليسون كيرْكْبَاتريك، عالمة الفلك بجامعة كنساس في مدينة لورنس: “بفضل الاستبانة العالية في صور تلسكوب «جيمس ويب»، أصبح في مستطاعنا أن نرى مجراتٍ تتخذ شكل القرص في مراحل أبكر بكثير مما كنا نعتقد سابقًا”، وهي ترى في ذلك مشكلة؛ لأنه يُناقض النظريات السابقة بشأن تطور المجرّات.
تشير مسوَّدة أولية أخرى إلى أن المجرات الهائلة تكوَّنت في مراحل أبكر من عمر الكون مما كان يُعتقد سابقًا. كما أعلن فريق بحثي يقوده إيفو لابي، من جامعة سوينبرن للتكنولوجيا في ملبورن بأستراليا، عن عثوره على سبع مجرات هائلة في حقل «سيرز»، يتراوح انزياحها بين 7 و10 (انظر المرجع 1010)، ويذكر الباحثون في تقريرهم أن “تكوُّن المجرات الهائلة بدأ في مرحلة مبكرة جدًا من عمر الكون”.
ورسمت لنا دراسات كيمياء المجرات من بيانات التلسكوب صورةً غنَّاء معقدة. فقد رصدت دراسة تحليلية للضوء القادم من المجرات، ويبلغ انزياحه 5 أو أكثر، في أول صورة عميقة المجال التقطها التلسكوب، وجود وفرة غير متوقعة من عناصر كيميائية بعينها، كالأكسجين11. (يوجد ارتباط بين الخطوط الطيفية التي تَظهر عند أطوال موجية مختلفة وبين العناصر الكيميائية التي تتكون منها المجرة). كان علماء الفلك يعتقدون أن عملية التخصيب الكيميائي، وهي العملية التي تَدمج فيها النجوم عنصرَي الهيدروجين والهيليوم لتكوين عناصر أثقل، تتطلب وقتًا طويلًا. غير أنَّ وجودها في المجرات الأولى “سيجعلنا نعيد التفكير في سرعة تكوّن النجوم”، على حد قول كيركباتريك.
المجرّات الأقرب أصغر من المتوقَّع
لا تتوقَّف مفاجآت هذا التلسكوب عند المراحل الأولى من تطوُّر الكون، وإنما تتعدَّاها إلى ما تلاها من مراحل. فقد عكفت إحدى الدراسات على ما رصده التلسكوب من «ظُهر الكون»، وهي الحقبة التي جاءت بعد الانفجار العظيم بثلاثة مليارات سنة، حين بلغ نشاط تكوُّن النجوم في الكون ذروته.
عمدَتْ رين سوس، عالمة الفلك بجامعة كاليفورنيا في مدينة سانتا كروز، إلى مقارنة صور تلسكوب «هابل» للمجرات في «ظُهر الكون»، بنظيراتها من صور تلسكوب «جيمس ويب»؛ وتبيَّن لها أن أغلب المجرات الهائلة بدت أصغر بكثير في صور الأشعة تحت الحمراء التي التقطها تلسكوب «ويب» مما بدت عليه في صور تلسكوب «هابل»12. وتقول: “قد يُغيِّر هذا من نظرتنا إلى تغيُّر حجم المجرات مع مرور الزمن”. كانت الدراسات المُجراة على صور «هابل» تشير إلى أن المجرات تبدأ صغيرة الحجم ثم تكبُر، لكن ما بيّنه تلسكوب «ويب» يُنبئنا أن تلسكوب «هابل» لم يكشف الحقيقة كاملةً، وأن تطور المجرات قد يكون أعقد مما كنا نظن.
يُدرك العلماء أننا مُقبلون على تغيُّرات كثيرة، فلا يزال تلسكوب «جيمس ويب» يخطو خطواته الأولى، في رحلة عمله المقرَّر لها أن تستمر عشرين عامًا. تقول كيركباتريك: “في هذه الأيام، أجدُ نفسي مستلقيةً على فراشي في الثالثة صباحًا، وقد جفا النوم عينيّ، وصوتٌ في نفسي يسأل: هل كلُّ ما فعلتُه خطأ؟”.