منذ أن بدأت الروبوتات الجوالة بزيارة الكوكب الأحمر واستكشافه خلال الستينيات والسبعينيات، أثارت سمات سطح المريخ الحيرة لدى العلماء، إذ لاحظوا آثار قنوات وأغوارٍ وأحواض بحيرات وعدداً من الدلتا التي يبدو أنها تشكلت بفعل الماء. ومنذ ذلك الحين، أرسلت عشرات البعثات إلى المريخ لاستكشاف غلافه الجوي وسطحه ومناخه بغية جمع ما أمكن من معلومات عن ماضيه الأكثر دفئاً ورطوبة. وأراد العلماء على وجه الخصوص معرفة المدة التي تدفقت فيها المياه على سطح المريخ وإذا كانت دائمة أو دورية بطبيعتها.
والهدف النهائي هنا هو معرفة إذا وجدت الأنهار والجداول والمسطحات المائية الدائمة لفترة كافية لظهور الحياة. وجمعت البعثات حتى الآن، مثل بعثة Curiosity وبعثة Perseverance، دلائل كثيرة جداً تُظهر كيف توزعت المئات من قيعان البحيرات الكبيرة في كوكب المريخ. ولكن وفقاً لدراسة جديدة أجراها فريق دولي من الباحثين، قد تكون تقديراتنا الحالية لمياه سطح المريخ أقل من الواقع بكثير. واستناداً إلى تحليل لبيانات الأقمار الصناعية على مدار سنوات، قال الفريق إن البحيرات القديمة ربما كانت ذات يوم سمة شائعة جداً على كوكب المريخ.
قاد البحث الدكتور جوزيف ميشالسكي، الأستاذ المشارك بقسم علوم الأرض ونائب مدير مختبر أبحاث الفضاء في جامعة هونغ كونغ. وانضم إليه باحثون من المعهد الكندي للأبحاث المتقدمة، ومركز أنظمة الكواكب للسكنية في جامعة أوستن، وجامعة كولومبيا البريطانية، ومتحف التاريخ الطبيعي، وجامعة براون وجورج تاون. وكان عنوان الورقة التي تصف النتائج التي توصلوا إليها “التنوع الجيولوجي والإمكانات الميكروبيولوجية لبحيرات المريخ”، ونشرت مؤخراً في مجلة Nature.
قيعان البحيرات هي الأهداف الرئيسية للروبوتات الجوالة
وأوضح ميشالسكي في بيان صحفي مؤخراً أن الأبحاث الحالية ركزت على المسطحات المائية الأكبر على المريخ، ما قد يهمل العديد من البحيرات الأصغر التي ربما كانت موجودة هناك، وقال: “حددنا نحو 500 بحيرة قديمة ترسبت على سطح المريخ، ولكن غالب البحيرات التي نعرفها أكبر من 100 كيلومتر مربع. لكن 70٪ من البحيرات على كوكب الأرض أصغر من هذا الحجم، وتقع في البيئات الباردة حيث انحسرا الأنهار الجليدية. ويصعب التعرف على البحيرات الصغيرة الحجم على سطح المريخ عن طريق الاستشعار عن بعد بالأقمار الصناعية، ولكن نرجح وجود العديد من البحيرات الصغيرة. ونرجح أن 70٪ على الأقل من بحيرات المريخ لم تكتشف بعد”.
وتعد أحواض البحيرات حالياً أحد الأهداف الرئيسية للمستكشفين الآليين على المريخ لأن البحيرات القديمة تمتلك جميع مكونات الضوء الميكروبي – بما في ذلك الماء والمغذيات ومصادر الطاقة مثل الضوء (لعملية التمثيل الضوئي). واليوم، تحتوي أحواض هذه المسطحات المائية القديمة على رواسب غنية بالمعادن والكربونات، وكذلك الكبريتات والسيليكا والكلوريدات. وقد تحتوي هذه الرواسب على أدلة محفوظة على الظروف الجوية والمناخية القديمة على المريخ.
البحيرات كانت كثيرة الضباب
ويشير الباحثون في الورقة إلى أن معظم بحيرات المريخ المعروفة تعود إلى العصر النوحي [Noachian Period] (نحو 4.1 إلى 3.7 مليار سنة) واستمرت من 1000 إلى 1 مليون سنة فقط. وهذه المدة قصيرة نسبياً من الناحية الجيولوجية، وتمثل جزءاً صغيراً من 400 مليون سنة من الجدول الزمني للعصر النوحي. وقد يعني هذا أن كوكب المريخ قديماً كان بارداً وجافاً أيضاً، وأن المياه المتدفقة كانت عرضية وقصيرة العمر. ونظراً لانخفاض جاذبية المريخ والتربة المحكمة النسيج، افترض الفريق أيضاً أن البحيرات على المريخ كانت كثيرة الضباب، ما يصعب وصول الضوء إلى أعماق كبيرة ويشكل تحديات لعملية التمثيل الضوئي.
نتيجة لذلك، قال ميشالسكي وزملاؤه إن البحيرات الكبيرة والقديمة والمتنوعة بيئياً ستشكل هدفاً واعداً للاستكشاف في المستقبل. وأكد ميشالسكي: “لا تتساوى كل البحيرات من حيث القيمة والأهمية. بعبارة أخرى، قد تكون بعض بحيرات المريخ أكثر جذباً للحياة الميكروبية من غيرها لأن بعض البحيرات كانت كبيرة وعميقة وطويلة العمر ولديها مجموعة واسعة من الأوساط مثل الأنظمة الحرارية المائية التي ربما كانت معينة على تكوين الحياة البسيطة”.
أدلة على وجود بحيرات خلال الفترة الجيولوجية الحديثة
وعثر الباحثون على دليل على وجود بحيرات على سطح المريخ خلال الفترات الجيولوجية الحديثة ولكنها تركت آثاراً أقل. وتشمل هذه البحيرات القديمة في العصر الهيسبيري (قبل 3-3.7 مليار عام) والبحيرات المستنقعية الضحلة خلال العصر الأمازوني (قبل أقل من 3 مليارات سنة). وقد تكون هذه الميزات مشابهة لتلك الموجودة على الأرض حيثما توجد ظروف باردة مماثلة، ويرجح أن تشبه البحيرات الضحلة الموجودة في المناطق الأكثر جفافاً (في العصر الهيسبيري) والسبخات التي تظهر أثناء ذوبان الطبقة المتجمدة تحت سطح الأرض (في العصر الأمازوني).
تصميم أدوات لاكتشاف بقايا الحياة الميكروبية خارج الأرض
ولخص عالم البيئة ديفيد بيكر في كلية هونج كونج للعلوم البيولوجية الأمر بالقول إن نظائر هذه الآثار على الأرض قد تساعد في توسيع البحث عن الحياة على المريخ من خلال بحث العلماء في بيئات أكثر تنوعاً.
وقال بيكر، وهو أيضاً مؤلف مشارك في الورقة وعلى دراية جيدة بالأنظمة الميكروبية في بحيرات كوكب الأرض: إن “الأرض موطن للعديد من البيئات التي قد تكون بمنزلة نظائر للكواكب الأخرى. فمن تضاريس أرخبيل سفالبارد القاسية إلى أعماق بحيرة مونو، يمكننا تحديد طريقة تصميم أدوات لاكتشاف الحياة في مكان آخر هنا على الأرض. وتهدف معظم هذه الأدوات إلى اكتشاف بقايا الحياة الميكروبية”.
اكتشاف الحياة على المريخ لن يطول
يدعم هذا البحث الخريطة المعدنية للمريخ التي أصدرتها وكالة الفضاء الأوروبية مؤخراً، والتي أظهرت كيف أن المعادن المائية (تلك التي تتشكل في وجود الماء) موجودة في كل مكان على السطح. وقد يساعد البحث أيضاً في توفير معلومات أكثر للمهمات الروبوتية المستقبلية، والتي تشمل مركبة روساليند فرانكلين الجوالة الخاصة بوكالة الفضاء الأوروبية، والتي من المقرر إطلاقها بحلول عام 2028، علماً أن أول مهمة هوبط صينية (تيانوين -1) ومركبة زهورونغ الصينية الجوالة هبطت على المريخ في 14 أيار (مايو) 2022، وهي تستكشف حالياً سهول Utopia Planitia.
والجدير بالذكر أن هذه المنطقة كان ذات يوم موقعاً للمحيط الذي يغطي معظم نصف الكرة الشمالي ويرجح أنها تحتوي على أدلة معدنية وكيميائية حول كيف ومتى انتقل المريخ من كوكب أكثر دفئاً ورطوبة إلى ما نراه اليوم. كما تجمع مركبة ناسا الجوالة “بيرسيفيرانس” حالياً العينات وتخزنها إلى حين استردادها في السنوات القادمة. وستكون هذه هي المرة الأولى التي تعاد فيها عينات من المريخ لإجراء تحليل شامل لا يمكن أن يحدث إلا في المختبرات الموجودة على الأرض.
ستمهد هذه البعثات وغيرها الطريق أمام بعثات مأهولة، والتي تخطط ناسا والصين للقيام بها بحلول أوائل عام 2030. وستهبط هذه البعثات في المناطق المائية التي يمكن الوصول إليها، والتي قد تكون موقعاً للبحث المحتمل. وإذا كانت هناك حياة بالفعل على المريخ منذ مليارات السنين (أو لا تزال موجودة حتى اليوم)، فلن يظل الدليل بعيد المنال لفترة أطول!
universetoday