التخطي إلى المحتوى

توقفت معجباً بما يمكن أن أسّميه «الكرامة اللغوية» أو «كرامة اللغة» عند الكاتب الإيطالي «إيتالو كالفينو» 1923 – 1985، فهو، بحسب مترجمه إلى العربية ياسين طه حافظ يجيد الفرنسية ويكتب بها، لكنه لا يكتب بها إبداعاً، الإبداع كما يقول المترجم طه حافظ يكتبه بالإيطالية لغته.
ويقول إن كالفينو يجيد الإنجليزية ويكتب بها رسائل وردوداً ومقالات، لكنه لا يكتب أدباً بالإنجليزية.
يكتب الأدب بلغته الإيطالية، ويجيد كالفينو اللغة الإسبانية ولكنه لا يكتب بها أدباً، الأدب يكتبه بلغته الأم الإيطالية.. «هي أكثر حميمية، أي الإيطالية، يأتمنها على روحه وعلى أسراره..».
ثلاث لغات يجيدها إيتالو كالفينو قراءة وكتابة ومحادثة ومعايشة في الحياة وعلى الورق، ولكن حين يتعلّق الأمر بالأدب، فإنه ينسى تماماً هذه اللغات الثلاث، ويذهب إلى أمّه الإيطالية..
درس إيتالو كالفينو درس عاطفي وأخلاقي قبل أن يكون درساً ثقافياً أو لغوياً بل هو درس وطني إذا شئنا القول من باب قومي أو انتمائي. إنه يذكرني هنا بالكاتب الجزائري مالك حدّاد الذي قال ذات يوم ودموعه تتساقط.. «اللغة الفرنسية منفاي، لكن العربية وطني..»، وكان حدّاد صاحب «..ليس على رصيف الأزهار من يجيب..». يكتب بالفرنسية مجبراً لأنه لا يعرف الكتابة ولا القراءة بالعربية.
ايتالو كالفينو يعرف الفرنسية، ولكن لم يكتب بها أدباً، ولم يجر على يديه ورجليه إلى نادي الفرانكوفونيين مع احترامي الثقافي لهم، ولكن البعض من عرب اللغة الفرنسية ما إن يطأ باريس ويعرف نصف المعجم اللغوي الفرنسي حتى ينفض عن ثيابه كل حروف العربية، ويخلع معطف أمّه، ليرتدي معطف «خالته».. فرنسا.
ليس بعض العرب من يدوخ بالفرنسية أو الإنجليزية، أو الألمانية أو الروسية إذا عرفوا أكتاف هذه اللغات جيداً، بل لديك مثال آخر هو التشيكي «ميلان كونديرا» الذي وضع لغته الوطنية القومية في كرتونة بالية وألقى بها في نهر السين ما إن وطأت قدماه باريس، وقد هاجر من بلاده، وعلى الفور، هاجر من لغته..
قد تختلف حالة كونديرا الذي مع كل ذلك، وعلى الرغم من هجرته اللغوية قرأناه بشغف في رواياته: «خفة الكائن التي لا تحتمل»، و«الحياة في مكان آخر» و«المزحة» و«غراميات مرحة» وكلّها كتبها كونديرا بالفرنسية وقرأناها مترجمة عن لغة رامبو وبودلير بخفة ترجمانية رائعة أحياناً، ومرعبة أحياناً أخرى.. أقول حالة كونديرا مختلفة عن حالات الكتّاب العرب، فما دفعه للكتابة بالفرنسية مرارات سياسية عميقة.. قد تشفع له جريه أو هرولته إلى النادي الفرانكوفوني.
لكن.. في كل الأحوال.. يمكن أن يكون كونديرا هو كونديرا الآن لو أنه كتب روايته بالتشيكية لا بالفرنسية؟؟
[email protected]

Scan the code