التخطي إلى المحتوى

استخفاف بمعاناة الناس (عامر المهيباني/فرانس برس)

هناك توجه عام سائد في الصحافة الفنية السورية يغلب على خطابه طابع النوستالجيا ويغالي في مديحه للدراما السورية قبل عام 2011. لكن المَشاهِد الحالية التي تنقلها كاميرات الإعلام السوري الرسمي والبديل تحيلنا إلى الدراما التي كنا نصنعها في تلك الفترة وتحثنا على الرجوع إليها؛ ليس لكونها الدراما النموذجية التي كانت تعكس واقعاً قد نحنّ إليه، بل لأن بعض مسلسلات تلك المرحلة كانت تملك وعياً نقدياً خاصاً نفقده تماماً اليوم، ويبدو استرجاع هذه الدراما ببعض الحالات تهكماً على ما يحدث في واقعنا الحالي. 
ففي مسلسل “الخيط الأبيض” للكاتب نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي يقول بطل المسلسل جمال سليمان متهكماً في حوار يدور بكواليس الإنتاج التلفزيوني: “يا ترى أي طقم ألماس حتلبسي بحوارك المؤثر مع هالعاجز الفقير المرمي بدار العجزة”! ليتهكم على انفصال الإعلام التلفزيوني عن الواقع ويشير إلى بعده عن القضايا التي يطرحها ويدعي الاهتمام بها. هذا الانتقاد يمكن تعميمه على معظم البرامج الجديدة التي ينتجها الإعلام السوري المحلي اليوم. 
ففي الآونة الأخيرة، وبعد أن بدأ الإعلاميون السوريون الموالون للنظام يخرجون من عباءة المؤسسات الإعلامية الرسمية التقليدية ويتجهون نحو المنصات البديلة لتقديم برامجهم الخاصة، فقد الإعلام السوري جزءاً من رصانته الخشبية المعروفة، لتكون النتيجة الأولى على المستوى البصري هي التحول الكبير الذي طرأ على أزياء العاملين في قطاع الإعلام، الذين خلعوا ربطات عنقهم وبدلاتهم الرسمية، وارتدوا عوضاً عنها أزياء عصرية. البعض منهم بات لا يظهر على الشاشة سوى بأزياء من أغلى الماركات العالمية؛ لتغزو شاشات السوريين العلامات التجارية الغربية الفاخرة، والتي هي بعيدة كل البعد عن قدرة المواطن السوري الشرائيَّة، بل إنّ بعض قطع الثياب التي يرتديها هؤلاء، تفوق دخل المواطن السوري لمدّة سنة كاملة.

هشام حداد LBCI

نجوم وفن

التحديثات الحية

قد توحي هذه الملاحظات أننا نتبنى ضمنياً الصورة النمطية التي رُسمت للسوريين بالسنوات الأخيرة بعد أعوام الحرب وموجات النزوح والفقر، وأننا ربما نحرص على إرغام الإعلاميين السوريين على ارتداء هذه الصورة، ولا سيما أن أحاديث مشابهة قد ظهرت بالفضاء العام، أخيراً، بعد أن قامت اليوتيوبر السورية بيسان إسماعيل بارتداء فستان مكون من أوراق نقدية تصل قيمتها إلى 20 ألف دولار، وقوبل الأمر بتعليقات لاذعة، باعتبار أن إطلالة بيسان هذه تستفز مشاعر الجمهور. 
لكن لا، نحن لسنا هنا بصدد محاكمة الإعلاميين والمشاهير السوريين أو محاسبتهم على الأموال التي يجنونها، وإنما لمناقشة إطلالاتهم ضمن السياقات التي يظهرون فيها؛ فارتداء بيسان لفستان الدولارات الذي يستعرض البذخ في مجمع تجاري فاخر هو أمر لا يسيء لأحد بالتأكيد، ويتوافق مع سياق الفيديو الذي تقدمه. كما أن ارتداء الأزياء الغالية جداً، والتي قد توازي سعر القطعة منها مصروف عائلة سورية كاملة لمدة عام تقريباً، هو أمر قد يكون مقبولاً في البرامج الحوارية الفنية التي يقدمها عطية عوض مثلاً، لكنه لا يبدو أمراً مقبولاً في البرامج التي يتواصل فيها الإعلامي بشكل مباشر مع الفقراء والمنكوبين ويستعرض العطف، كبرنامج “الناس لبعضها” الذي يقدمه شادي حلوة، إذْ يلتقي حلوة مع سوريين داخل سورية يعانون من ظروف الحياة اليومية الصعبة بسبب الغلاء المعيشي والأزمة الاقتصادية. 

لسنا هنا بصدد محاكمة الإعلاميين والمشاهير السوريين أو محاسبتهم على الأموال التي يجنونها

فعندما تشاهد شادي حلوة متجوِّلاً في أحياء المدن الفقيرة، وهو يرتدي قميصاً من إحدى ماركاته المفضلة، والتي لا يقل ثمن الواحد منها عن 120 يورو وقد يصل ثمنها إلى 750 يورو، تدرك مدى انفصال الإعلام السوري عن الواقع، ومدى استخفافه بمعاناة الناس وعدم مبالاته باستثمارها. يقوم شادي حلوة بتوزيع النقود على الناس الأشد فقراً بعد أن يسألهم أسئلة بسيطة بالرياضيات، لجمع الأعداد الأولية أو طرحها، والمفارقة تكمن بأن البعض لا يعرف الأجوبة، لتعبّر هذه اللقاءات البسيطة عن حالة الفقر والجهل الشديدين التي وصل إليها السوريون في الداخل اليوم. 
المشكلة ليست بأزياء شادي حلوة وعدم انسجامها مع المشهد وحسب، فشخصية شادي حلوة بحد ذاتها لا تنسجم مع طبيعة البرنامج؛ الذي لا يبدو سوى محاولة لتلميع صورته وتبييضها بعد أن كان إحدى أكثر الشخصيات المكروهة في الإعلام السوري لعدة سنوات عمل فيها مراسلاً حربياً، وتقدم خلالها إلى رتبة ضابط إعلامي، وفتحت له كل الأبواب الموصدة. وعدا عن ذلك، فإن الطريقة التي يقدم بها البرنامج رخيصة للغاية، ولا تبدو سوى كجلسة تصوير يشحد بها الإعلام على الشعب، حيث يتم استخدام موسيقى حزينة ولقطات بطيئة لكل شخص فقير يمر بالبرنامج، ليحث البرنامج الجمهور على الشفقة وربما المساهمة بإرسال إعانات مالية لهم، ليساعدوا بدورهم الناس المنكوبين. 
الجدير بالذكر أن برنامج شادي حلوة يشبه لحد ما الفيديو الذي نشره اليوتيوبر السوري المقيم في بريطانيا يوسف قباني الذي زار سورية، ووزع على الناس في الشارع مساعدات موثقة بالفيديو، حينها تم اعتقاله؛ فعلى ما يبدو أن النظام السوري يشرف على العملية، ولا يسمح بالشحادة على السوريين، إلا لمن يرضى عنهم! 

Scan the code